للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفاض الكأسُ بعد البَيْنِ حتى ... لَعَمْرِي قد جرَتْ منه سَواقِ

فليس لِداء ما ألْقَى دواءٌ ... يُؤمَّل نفُعه إلَّا التَّلاقِي

وقوله: وهو من أبدع ما هزَّ به الشوق، بعصا السوق.

يتشوق إلى محله، ويندب بعد ترحله عنه ومرتحله:

طولُ اغْترابِي بفَرْط الشوقِ أضْنانِي ... والبَيْنُ في غَمَراتِ الوَجْدِ ألْقانِي

يا بارِقاً من نواحِي الحيِّ عارَضنِي ... إليك عنِّي فقد هَيَّجْتَ أشْجانِي

فما رأيُتك في الآفاقِ مُعترِضاً ... إلا وذكَّرْتني أهلى وأوْطانِي

ولا سمعتُ شَجا الورْقاءِ نائحةً ... في الأيك إلا وشبَّتْ منه نيرانِي

كم ليلةٍ من ليالِ البَيْنِ بِتُّ بها ... أرْعَى النجومَ بطَرْفِي وهْي تَرْعانِي

كأن أيْدِي خُطوبِ الدهر منذ نأَوْا ... عن ناظرِي كحَّلَتْ بالسُّهْدِ أجْفانِي

ويا نسيماً سرَى من حَيِّهم سحراً ... في طَيِّه نَشْرُ ذاك الرَّنْدِ والْبانِ

أحْيَيْت مَيْتاً بأرْضِ الشام مُهجَتُه ... وي العراق له تَخْيِيلُ جُثمانِي

وكم حييتُ وكم قد مِتُّ من شَجَنٍٍ ... ما ذاك أوَّلُ إحياءٍ ولا الثاني

يالائمِي كم بهذا الَّلوْمِ تُزعِجني ... دَعْني فلَوْمُك قد واللهِ أغْرانِي

لا يسكُن الوجدُ مادام الشَّبابُ ولا ... تصْفُو المشاربُ ليِ إلَّا بلُبْنانِ

في رَبْعِ أُنْسِى الذي حلَّ الشبابُ به ... تَمائِمِي وبه صَحْبي وخِلانِي

كم قد عهدتُ بهاتيك المعاهدِ مِن ... إخْوانِ صِدْقٍ لَعَمْري أيُّ إخوانِ

وكم نقضَّتْ لنا بالحيِّ آونةٌ ... على الَمسرَّة في كَرْمٍ وبُستانِ

لم أدْرِ حالَ النَّوَى حتى علِقْتُ به ... فغَمْرتي من وقُوعِي قبل عِرْفانِ

حتَّى مَ دهري على ذَا الْهَوْنِ تُمسكني ... هلا جنَحتَ لتسْريحٍ بإحْسانِ

أقسمتُ لولا رجاءُ القرْبِ يُسعِفني ... فكلَّما مُتُّ بالأشواق أحْيانِي

لكدتُ أقْضِي بها نحْبِي ولا عجبٌ ... كم أهَلك الوجدُ من شِيبٍ وشُبّانِ

يا جِيرةَ الحيِّ قلبي بعدَ بُعدِكمُ ... في حَيْرةٍ بين أوْصاب وأحْزانِ

يمضي الزمانُ عليه وهو ملتزِمٌ ... بحبِّكمْ لم يُدنِّسْه بسُلوانِ

باقٍ على العهدِ راعٍ للذِّمامِ فما ... يُسوم عهدَكمُ يوماً بنِسيانِ

فإن بَراني سَقامِي أو نأَى رَشَدِي ... فلاعِجُ الشوقِ أوْهانِي وألْهانِي

وإن بكتْ مقلتي بعد الفِراقِ دَماً ... فمن تذكرِكم يا خيرَ جِيرانِ

[سبطه زين الدين بن محمد]

هو السبط، ذو البنان السبط، حازم الرأي في الحل والربط.

مجده نسق الحديث مع القديم، وحلاه تسوغ بها المدامة إذا تكررها النديم إلى ذاتٍ كاملةٍ مكملةٍ ونفسٍ بفعل الجميل مجملة.

ملازم كنٍ وعُزلة، متعاطٍ سهل العيش وجزله.

ثم سمت همته إلى أن طار عن أهله، وخرج يتتبَّع عجائب القطار على مهله.

يرتاد غير أرضه أرضا، ليقضى من أمر الرحلة سنة وفرضا.

حتى كان البيت الحرام آخر مطافه، انتقل إلى عفو الله وخفى ألطافه.

وقد رأيت له شعراً يتجلى في أبراد الإجادة، ويتحلى بالكلمات بالصقيلة المستجادة.

فأثبت منها ما ترقص بسماعه معاطف وذوائب، وتمسى قلوب العشاق من نار غرامه، وهي ذوائب.

فمن ذلك قوله، يشكو طول نواه، ويندب أوقاته بمحل ثواه:

سئمتْ لفَرْط تنُّقلِي البَيْداءُ ... وشكتْ لعِظْم ترحُّلي الأنْضاءُ

ما إن أُرى في الدهرِ غير مُوَدِّع ... خِلًّا وتوديعُ الخليل عَناءُ

أبْلَى النَّوى جلَدِي وأوْقد في الحشَا ... نِيرانَ وجدٍ مالها إطفاءُ

فقدتْ لطُول البَيْن عيني ماءَها ... فبكاؤُها بدل الدموع دماءُ

<<  <  ج: ص:  >  >>