للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما زلتُ محسوداً على أيَّامكمْ ... حتى غدوْتُ ببُعْدكم مَرْحوماَ

ومن البليَّةِ قبلَ توْدِيعي لكم ... أصبحتُ رِزْقاً للنَّوى مقْسوماَ

فأجابه، وكان محموما:

وافَى الكتابُ وكنتُ قبلَ وُرودِه ... مِن خوَفْ ذِكْرِ فِراقكم مَحْمُوماَ

هذا ولِي أمرٌ بصَرْفةِ عَزْمِكم ... عنه فكيف إذا غدا محْتوماَ

وله:

إنَّ شَوْقي يجِلُّ عن أن يُؤدِّي ... بعضَ أوْصافِه لسانُ اليَرَاِع

وكان بحلب مفت صدره الدهر بجاه ومال، وعطف إليه الأفئدة وأمال.

وبعد انقراض بني البتروني الذي أبكى الدهر نعيهم، وذهب برونق الرياسة أحوذيهم وألمعيهم.

وقد طلعوا في سماء الغفران شهبا، وأمست أطلالهم بيد النوى نهبا.

وهكذا الدنيا لها التصدير أبنائها جنوح، وموت بعض الناس على بعض فتوح.

فأصبح مكان الدر صدفاً، وصير نفسه لسهام الاعتارض هدفا.

وكان له كاتب يعرف بابن ندى وهو يده ولسانه، وعليه تدور إساءته وإحسانه.

فقدم المفتى يوماً للصلاة على جنازة، فكبر عليها خمساً ظاناً جوازه.

وكان ذلك فغي جمع حافل، جمع بين عالٍ وسافل.

فقال فيه السيد أحمد:

ومُذْ مصطفى صلَّى صلاةَ جنازةٍ ... وكبَّر خمسا سدَّس الناس لَعْنَهُ

فقلتُ اعْذرُوه إنَّه قلد النَّدَى ... ومن قبلُ في الفتْيا لقد قلَّد ابْنَة

يشير بقوله قلد الندى إلى قول أبي تمام، في قصيدته التي رثى بها إدريس ابن بدر:

ولم أنْسَ سَعْيَ الجودِ خلفَ سَرِيرِه ... بأكْسفِ بالٍ يستقيمُ ويظْلَعُ

وتكبيرَه خَمْساً عليه مُعالِناً ... وإن كان تكبيرُ المُصلِّين أرْبَعُ

وما كنتُ أدرِي يعلمُ اللهُ قبلَها ... بأن النَّدَى في أهلِه يتشيَّعُ

ومما يناسب مع هذا، قول بعضهم في موسوس:

وباردِ النِّيَّةِ مَغْموسِها ... يُكرِّر الرِّعْدةَ والهِزَّهْ

مُكبِّراً سبْعين في مَرَّةٍ ... كأنما صَلَّى على حَمْزَهْ

يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى على عمه حمزة سبعين مرة، فكلما قدم علي ميت صلى عليه، وبه استدل على الصلاة على شهيد المعركة.

[ولده السيد باكير]

فرع من تلك الدوحة الباسقة، وعصماء من عقد محتدها التي تنظمت فرائده المتناسقة.

أنبت به ندى بيته الثناء في حدائق الأذهان، وأملت معاليه المعاني بأفصح لسان على الأذان.

رضع من در العلوم كهلا ووليدا، وحوى من أنواع المفاخر طارفاً وتليدا.

يجتلى ناظره روض الحظ ناضرا، ويجتلب رأيه المغربات فيجعل غائبها حاضرا.

وله منطق يعلم الأبكم براعة التلفظ، وحديث كقطع الروض قد سقطت فيه مؤنة التحفظ.

فهو في كلامه النفيس العالي، كأنما عناه بقوله الميكالي:

إن كلامَ ابن أحمد الحسنِى ... آسَى كِلامَ الهمومِ والحزَنِ

سحرٌ ولكن حكى الصَّبا سَحَراً ... في لُطْفِه غِبَّ عارِض هَتِنِ

وقد جرى في مجلس النجم الحلفاوي ذكر نجابته التي دلت عليه، دلالة النسيم على الحبيب إذا هب بعرف صدغيه.

فأثنى علي ثناء الزهر، على جدول النهر.

ووصف محتده وصف حسان، لآل غسان.

فرآ ليلةً في منامه أنه نظيم بيتين في نعته، ثم انتبه مع نومه فكتبهما من وقته.

وهما:

يا كيرُ فاق على الأقْران مرتِقياً ... أَوْجَ المعالي فلا خِدْنٌ يُدانيِه

والفرعُ إن أثْمرتْ أيدي الكرامِ به ... فالأصلُ من كوثرِ الأفْضال يَسْقِيِه

وقد أثبت له ما هو أصفى من ماء المفاصل، وألطف موقعاً من ضمة الحبيب المواصل.

فمنه قوله:

بك صَرحُ العَلاء سامٍ عِمادُهُ ... وكذاك الكمالُ وارٍ زنادُهْ

إن كلَّ الأنام من ناظرِ الد ... هرِ بياضُ وأنت منه سوادُهُ

قد غرقنا من فيْض فضلك في أمْ ... واج بحرٍ تتابعتْ أزْبادُهْ

وإذا الفكرُ لم يُحِطْ بمعا ... لِيكَ جميعا وخاب فيك اجْتهادُهْ

فاعْتذاري ببيْت نَدْبٍ هُمامٍ ... ما كبَا في مَيْدان فضلٍ جوادُهْ

<<  <  ج: ص:  >  >>