للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكتبه المُحِبُّ الأكبر، والفقير الأصغر.

النائِي عن الأخوان، محمد المدُ وُّببدِيع بل بشَنِيع الزمان.

وحكى الطَّالُوِيّ، أنه حَنَّ يوماً إلى وطنِه، حَنِين النَّجِيب إلى عَطَنِه، والمهجور إلى سَكَنِه.

وقد ذكر مَسْقِط رأسِه، ومُشتَعل نِبْراسِه.

وهي البلدةُ البيضاء أعني فاس، فتصاعدتْ منه لفُرقتِها الأنْفاس.

حتى ذرَفتْ عيناه بالدموع، شوقاً إلى تلك المَنازل والرُّبُوع.

فلما رأى الحاضرون حالَه، رَقَّ كلٌّ له ورَثَى له.

فقلتُ عن لسان حالِه، وقد توجَّه إلى منزله ببَلْبَالِه، قطعةً سبقتْه إلى النادِي، وكانتْ عنده كبعضِ الأيادي.

مع لُغْزٍ في اسم بلدة مَرّاكُش وكان قد جَرى شيءٌ من ذِكْرها، فنظمتُ ذلك أيضاً في إثْرِها:

ربَعتْ على تلك الرُّبوعِ هَتُونُ ... وَطْفاءُ فيها للبُروقِ حَنِينُ

مَسفوحةُ العَبَرات سَفْحَ مَدامعِي ... نحو الديارِ كأنَّهُنَّ عُيونُ

فسقَى مَعالِمَ فاسَ حيثُ صَبابتِي ... وصِبايَ فيها صاحبٌ وخَدِينُ

فارقْتُها وأنا الضَّنِينُ وربما ... يسْخُو الفتى بالرُّوح وهْو ضَنِينُ

فعلَى مَعالِمها تحيَّةُ مُغْرَمٍ ... في قلبه لِهَوَى الديارِ شُجونُ

وأما اللغز فهو:

وما اسْمٌ خُماسِيٌّ مُسمَّاه بلدةٌ ... تركَّب من شَكَّينِ وهْو يقينُ

فشَكٌّ تَراه العَيْن يبدُو بلا مِرا ... وشكٌّ بقلبٍ لا تراه عيونُ

فكتب بسُرعة لمَّا وصلتْ إليه الرُّقْعة: ومازال العبدُ من حين مُفارقتكم لا يقَرُّ له قَرار، إلى أن ورد شَذَا نَظْمِكم المِعْطار.

فقال طالباً للقبول، على استعجال من الرَّسول:

مولايَ لازلتَ فَرْداً في المَكارمِ يا ... أبا المَعالي ودُمْ في أرفعِ الدَّرجِ

ألْبَسْتَ فاساً وأهْلِيها ثيابَ عُلاً ... قد نَمَّقَتْها يَدَا تقريظك البَهِجِ

لمَّا جرى ذكرُها في رَحْبِ خاطرِكم ... أنْشدتُها قولَ صَبٍّ بالهوى لَهِجِ

لِتَهْن يا فاس واخْلَعْ ما عليك فقد ... ذُكِرْتَ ثَمَّ على ما فيك من عِوَجِ

وأمَّا لُغْزُكم السَّهل المُمتنِع، فهو في بلدةٍ لقلبِ الصَّبِّ الحبيبُ المُمْتَنِع.

وعاجلَنَي الرسول، على نظمِ بعض الفُضول.

ولكن في غَدٍ إن شاء الله يقَعُ الإتْمام، عالِماً ومُقِرّاً أنَّ لي بساحةِ اقْتداركم إلْمام.

فكتب إليه ثانياً:

ما ذاتُ عُودٍ لها لَحْنٌ من الهَزَجِ ... باتت تغنَّي به في رَوْضِها البَهِجِ

لها بدَعوةِ نوحٍ طَوقُ غانيةٍ ... على وِشاحٍ من الأزْهار مُنْتَسجِ

مَخْضوبَةُ الكفِّ لا من عَنْدَمٍ خضَبَتْ ... ذاك البَنان ولكنْ من دَمِ الْمهَجِ

مَدَّتْ قوادِمَ ليلٍ فيه لاح لنا ... بِيضُ الْخَوافِي كصُبْحٍ منه مُنْبَلِجِ

يوماً بأحْسنَ مِن مَرْأَى نِظامِ فتىً ... بذكْرِ فاسَ ومَغْنَى رَبْعِها لَهِجِ

محمد بن أحمد الْمَكْلانِيّ كاتب الإنشاء بحضرة سلطان المغرب

زانتْ شمسُه ذلك الفلَك، وجلتْ أنوارُه ظَلْماء الحَلَك.

فهو أديبٌ مُنْشِي، مُحبِّر مُوَشِّي.

سريعُ البَنَان، بديعُ البيان.

لا يحْبس عِنان قلمِه، أوينثر الدُّرّ من كَلِمه.

ألفاظٌ كَالبُشْرَى مسموعة، وأزاهير الرِّياض مجموعة.

ومَعانٍ كأنْفاس النَّسمات، عبقتْ في ثُغور الزَّهرات المُبْتسمات.

فمن شعره ما كتبه على كتاب المَقَّرِيّ " زهر الرياض في أخبار عياض ":

أهذه أدْواحُ هذِي الرِّياضْ ... أم هذه غُدْرانُها والحياضْ

سالتْ بماءِ التِّبْر خُلْجانُها ... على سوادٍ زان منها البياضْ

وأزْرَقُ الصبح بها قد جرَى ... تخالُه نَهْراً على الطِّرْسِ فاضْ

تِمْثالُ نَعْلِ المصطفى شكلُها ... جعلتُ خدِّي تُرْبَه عن تَراضْ

ففاخَر التُّرْبُ نجومَ السَّما ... فالشُّهْب من آفاقِها في انْقضاضِ

تحسِده الزَّرقاءُ في لَثْمِها ... فالبرقُ من أحْشائها في ائْتماضْ

<<  <  ج: ص:  >  >>