للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال جحظة: خرجت في عيد من أعياد أشموني إلى قطربل، فلما وصلت إلى الشط، مددت عيني لأنظر موضعاً خالياً أصعد إليه، أو قوماً ظرافاً أنزل عليهم، فرأيت فتيين من أحسن الناس وجوهاً وأنظفهم لباساً، وأطرفهم آلة! فقدمت سميريتي نحوهما، وقلت: أتأذنون في الصعود إليكم؟ فقالوا: بالرحب والسعة! فصعدت وقلت: يا غلام، طنبوري ونبيذي! فقالا: أما الطنبور فنعم، وأما النبيذ فلا. فجلست مع أحسن الناس أخلاقاً وأملحهم عشرة. وأخذنا في أمرنا. ثم تناولت الطنبور، وغنيت بشعر لي:

سقياً لأُشموني ولذاتها ... والعيش فيما بين جناتها

سقياً لأيام مضت لي بها ... ما بين شطّيها وحاناتها

إذا اصطباحي في بساتينها ... وإذ غبوقي في دياراتها

فنعر القوم، وشربوا بالأرطال وشربت، وطاب لنا الوقت إلى آخر النهار.

ثم قلت لأحدهما: جعلت فداك، ما أرى في هذا الجمع أرق منكما طبعاً، ولا أرق نبيذاً. فقال لي مجيباً:

شرابي رقيقٌ كما قد رأي ... ت، ود بسهم بذباب يساط

وأشار إلى القوم، ثم قال:

فكيف أكون نظيراً لهم ... أين لي بعقلك أم ذا ضراط

ثم قال: أزيدك؟ قلت: لا. ومر لنا أطيب يوم وأحسنه! قال محمد بن المؤمل الطائي: كنت مع أبي العتاهية في سميرية، ونحن سائرون إلى أشموني. فسمع غناء من بعض النواحي، فاستحسنه وطرب له. فقال لي: تحسن ترقص؟ قلت: نعم! فقال: قم بنا نرقص. قلت: نحن في سميرية، وأخاف أن نغرق! قال: وإن غرقنا نكون ماذا؟ أليس نكون شهداء الطرب؟ وللثرواني، فيه:

إشرب على قرع النواقيس ... في دير أشموني بتغليس

لا تخف كأس الشرب، والليل في ... حدّ نعيم لا ولا بوس

إلا على قرع النواقيس ... أو صوت قسّان وتشميس

فإنما الشيء بأسبابه ... ومحكم الوصف بتأسيس

فهكذا فاشرب، وإلا فكن ... مجاوراً بعض النواويس

قال: كتب يحيى بن كامل إلى عبد الملك بن محمد الهاشمي في يوم أشموني:

اليوم أشموني أبا الفضل ... وهو عجيبٌ طيب الظلّ

وأنت لليوم صريعٌ فما ... يصنع يحيى يا أبا الفضل

فوجه إليه بما ركبه، وعرف الجماش الخبر، فكتب إليه:

قولا لعبد الملك الماهر ... ولابن عم المصطفى الطاهر

أما ترى اليوم، وأحواله ... تدعو إلى حثّك بالدائر

عيدٌ وغيم زار في يومنا، ... فقم بحقّ العيد والزائر

واليوم أشموني، فبادر بنا، ... تحثُّها في يومها الزاهر

حبوت يحيى ثم أغفلتني ... أحلت عن جماشك الشاعر

فوجه إليه وأحضره. ومر لهم يوم طيب.

ولأبي الشبل البرجمي، فيه:

شهدت مواطن اللذات طرا ... وجبت بقاعها بحراً وبرّا

فلم أر مثل أشموني محلاً ... ألذّ لحاضريه ولا أسرّا

به جيشان من خيل وسفن ... أناخا في ذراه واستقرا

كأنهما زحوف وغىً ولكن ... إلى اللذات ماكرّا وفرا

سلاحهما القواقز والقناني ... وأكواسٌ تدور هلمّ جرا

وضربهما المثالث والمثاني ... إذا ما الضرب في الحرب استحرا

وأسرهما ظباء الدّير طوعاً ... إذا أسد الحروب أسرن قسرا

لقد جرّت لنا الهيجاء خيراً ... إذا ما جرت الهيجاء شرا

وكان أبو الشبل هذا من الطياب، وله شعر مليح، وطبع رقيق. وكان منعكفاً على الشرب لا يفارقه ولا يوجد إلا سكران. وكان يتطرح في الديارات والحانات ومواطن اللهو، لا يغبها ولا يتأخر عنها.

وكان بينه وبين محمود الوراق مودة، وكانا لا يفترقان. وذكر أبو الشبل، قال: صرت أنا ومحمود إلى قطربل، فدعونا الخمار، فقلنا: ايتنا ببنت عشر قد أنضجها الهجير. فجاءنا بها. فقلنا: اسقنا! فسقانا. فقلنا: اشرب واسقنا! فقال: أنا مسلم، وكان يهودياً قد أسلم. فقال لي محمود: قوم يكون الخمار عندهم مسلماً متحرجاً، وهم عند الخمار كفار، أترى لله فيهم حاجة؟.

<<  <   >  >>