للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقال محمّد بن يحيى: دخلت على أبي العبّاس عبد الله بن المعتزّ وقد هدم أكثر داره، وهو ينظر إلى الصُّنّاع كيف يبنون قبَّةً له، فكأنّى أشفقت من الغرم مع قلّة الدَّخل، فأومأت بالقول إلى ذلك، فأنشدني مساعداً لي:

أَلاّ مَن لِنَفْسٍ وأَشجانِهَا ... ودَارٍ تَداعَتْ بحِيطانِهَا

أَظَلُّ نهارِىَ في شَمْسِهَا ... مُلَقًّى مُعَنًّى ببُنْيَانِهَا

يُسَوَّدُ وَجْهِى بتَبْيِيضِهَا ... ويخْرَبُ كِيْسِى بعُمْراَنِهَا

وقال وقد مدَّت دجلة فخرَّبت بعض داره:

أَتَتْنِىَ دِجْلَةُ لمْ أَدْعُهَا ... فمَا صَنَعَ البَحْرُ ما تَصْنَعُ

طُفَيْلِيّةٌ لم تكن في الحسا ... ب تَأْكُلُ دارِى ولا تَشْبَعُ

فكَمْ مِنْ جِدَارٍ لنا مائِلٍ ... وآخَرَ يَسْجُدُ أَو يَرْكَعُ

ويُمْطِرُنا السَّقْفُ من فَوقِنَا ... ومِنْ تَحْتِنَا أَعْنُنٌ تَنْبُعُ

وأَصبَح بُسْتانُنا جَوْبَةً ... يُسَبِّحُ في مائِهِ الضِّفْدَعُ

وحدّثني أبو الحسن عليّ بن هارون بن عليّ بن يحيى بن أبي منصور قال: كان أبي نازلاً في جوار عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فانتقل عنها إلى دارٍ ابتاعها بنهر المهديّ، وهي دار إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، فكتب إليه عبيد الله بن عبد الله مستوحشاً:

يا منْ تَحَوَّلَ عنّا وهْو يَأْلَفُنَا ... بَعُدْتَ جِدًّا فلأْياً صِرْتَ تَلْقَانَا

فاعْلَمْ بأنّك إِنْ بُدِّلْتَ جِيرتَنا ... بُدِّلْتَ دَاراً وما بُدِّلْت جِيرَانَا

فأجابه أبو هارون بن عليّ:

بَعُدْتُ عنك بدارِى دُونَ خالِصَتي ... ومَحْض وُدِّى وعَهْدِي كالّذِي كانَا

وما تَبَدَّلتُ مُذ فَارَقْتُ قُرْبَكُمُ ... إلاّ هُمُوماً أُعانِيهَا وأَحْزَانَا

وهلْ يُسَرُّ بسُكْنَى دَارِهِ أَحَدٌ ... وليسَ أَحبابُهُ للدّارِ جِيرانَا

[باب]

[في الطرد والجوارح]

[وما يصطاد من السوانح والبوارح]

أول من افتنَّ في فنون الطَّرد وأبدع فيه أبو نواس، لأنّه عمل في سائر الجوارح، مثل الكلب والبازي والزُّرّق والشاهين والصَّقر واليؤيؤ والباشق والفهد الزُّمَّج والعقاب وعناق الأرض وجميع ما يصطاد به من الآلات مثل قوس البندق والفخّ وقصب الدِّبق وما شاكل ذلك، ولم يأت للعرب في الطَّرد شعرٌ مفردٌ، بل كانت تصف النّاقة وتشبِّهها بالبقرة الوحشيّة إذا آسد عليها القنّاص الكلاب، افتناناً منها في أشعارها، ثمّ تصف الكلاب والطَّرد، كقول النابغة في الكلاب:

أَهْوَى له قانِصٌ يَسعَى بأَكْلبِهِ ... عارِى الأَشَاجِع مِن قُنّاص أَنْمَارِ

يَسْعَى بغُبْسٍ طَوضاها، فَهْي طاوِيةٌ، ... طُولُ ارْتحالٍ بها مِنْهُ وتَسْيَارِ

وكقوله أيضاً:

فبَاتَ كأنّه قاضِي نُذُورٍ ... سَرَى لله يَنْتَطِرُ الصَّبَاحَا

فصَبَّحَهُ كِلاَبُ بني تَمِيمٍ ... بجَنْبِ الرَّدْهِ مِن جَدَهٍ كِفَاحَا

فلمَّا أَنْ تَبَيَّنَ ضارِياتٍ ... وكَلاّباً يَعنُّ بهنّ سَاحَا

فأَعملَ للنَّجاءِ مُخَذْرَفَاتٍ ... نَوَائِمَ أَذْرَفَتْ دَمْعاً صحَاحَا

فهنّ شَوَارِعٌ يَطْمَعنَ فيه ... ولن يَتْرُكْنَه لَجَرَىصِفَاحَا

فلمّا أَنْ دَنَونَ له تَأَبَّى ... ولولاَ بَأْوُهُ لَنَجَا طِمَاحَا

وله أيضاً:

فارْتَاعَ مِن صوتِ كَلاّبٍ فبَاتَ لَهُ ... طَوْعَ الشَّوامِتِ من خَوْفٍ ومن صَرَدِ

فبَثَّهُنّ عليه فاسْتَمَرَّ بِهِ ... صُمْعُ الكُعُوبِ بَرِيئَات مِن الحَرَدِ

وللبيد بن ربيعة:

حتّى إِذا يَئِس الرُّمَاةُ وأَرسَلوا ... غُضْفاً دَوَاجِنَ قَافِلاً أَعْصَامُهَا

فلَحِقْنَ واعْتَكَرتْ لهَا مَدَرِيَّةٌ ... كالسَّمْهَرِيَّةِ حَدُّها وتَمَامُهَا

لتَذُودَهنّ وأَيْقَنتْ إِنْ لم تَذُدْ ... أَنْ قَدْ أَحَمَّ مَعَ الحُتُوفِ حِمَامُهَا

<<  <   >  >>