للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَنْحَرَهَا فِي الْحَرَمِ وَيُفَرِّقَ لَحْمَهَا فِي الْحِلِّ، فَلَا يُجْزِئُهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ فَرَّقَهُ فِي الْحِلِّ عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ أَوْ فُقَرَاءِ الْحِلِّ، وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الْهَدْيِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْزِئُهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ) {المائدة: ٩٥) فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي إِبْلَاغَهُ الْكَعْبَةَ فَيُجْزِئُ وَهَذَا هَدْيٌ قَدْ بَلَغَ الْكَعْبَةَ فَوَجَبَ بِحَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُجْزِئَ، وَلِأَنَّهُ جُبْرَانٌ لِنُسُكِهِ فَجَازَ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ كَالصَّوْمِ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَجُوزُ فِيهِ صَوْمُهُ عَنْ نُسُكِهِ فَجَازَ فِيهِ تَفْرِيقُ هَدْيِهِ كَالْحَرَمِ.

وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ) {المائدة: ٩٥) وَالْمُرَادُ بِالْكَعْبَةِ الْحَرَمُ، فَلَمَّا حَضَّ اللَّهُ تَعَالَى بِإِيصَالِ الْهَدْيِ إِلَيْهِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالتَّفْرِقَةِ دُونَ الْإِرَاقَةِ، أَوْ بِالْإِرَاقَةِ دُونَ التَّفْرِقَةِ، أَوْ بِالْإِرَاقَةِ وَالتَّفْرِقَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالتَّفْرِقَةِ دُونَ الْإِرَاقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَحْمًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْإِرَاقَةِ دُونَ التَّفْرِقَةِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا تَنْجِيسَ الْحَرَمِ، وَتَنْجِيسُ الْحَرَمِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، بَلْ صِيَانَةُ الْحَرَمِ عَنِ الْإِنْجَاسِ قُرْبَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْإِرَاقَةِ وَالتَّفْرِقَةِ؛ لِمَا فِي نَفْعِ مَسَاكِينِ الْحَرَمِ مِنْ عِظَمِ الْقُرْبَةِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحَرَ هَدْيَهُ فِي الْحَرَمِ وَفَرَّقَ لَحْمَهُ عَلَى مَسَاكِينِهِ، وَقَالَ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ "، وَلِأَنَّ إِرَاقَةَ الهدي وتفريقه مقصود ثان مَعًا، أَمَّا الْإِرَاقَةُ فَهِيَ مَقْصُودَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى فِي الْحَرَمِ لَحْمًا وَفَرَّقَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَأَمَّا التَّفْرِقَةُ فَهِيَ مَقْصُودَةٌ لِأَنَّهُ لَوْ نَحَرَ هَدْيَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِرَاقَةُ وَالتَّفْرِقَةُ مَقْصُودَتَيْنِ ثُمَّ لَمْ تَجُزِ الْإِرَاقَةُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ وَجَبَ أَنْ لَا تَجُزِ التَّفْرِقَةُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ.

وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الْهَدْيِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ كَالْإِرَاقَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأُصُولَ فِي الْحَجِّ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ نُسُكٍ اخْتَصَّ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْحَرَمِ اخْتَصَّ جَمِيعُهُ بِالْحَرَمِ كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ، وَكُلُّ نُسُكٍ لَمْ يَخْتَصَّ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْحَرَمِ لَمْ يَخْتَصَّ جَمِيعُهُ بِالْحَرَمِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلَمَّا كَانَ شَيْءٌ مِنَ الْهَدْيِ مُخْتَصًّا بِالْحَرَمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ مُخْتَصًّا بِالْحَرَمِ.

وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّوْمِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِهِ بِالْحَرَمِ، فَلِذَلِكَ جَازَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَلَمَّا اخْتَصَّ شَيْءٌ مِنَ الْهَدْيِ بِالْحَرَمِ اخْتَصَّ جَمِيعُهُ بِالْحَرَمِ.

أَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَرَمِ فَالْمَعْنَى فِي الْحَرَمِ أَنَّ الْإِرَاقَةَ فِيهِ تُجْزِئُ فَجَازَتِ التَّفْرِقَةُ فِيهِ وَالْحِلُّ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْإِرَاقَةُ فِيهِ لَمْ تَجُزِ التَّفْرِقَةُ فِيهِ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَنْحَرَهَا فِي الْحِلِّ وَيُفَرِّقَ لَحْمَهَا فِي الْحَرَمِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ.

وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجْزِئُ التَّفْرِقَةُ فِي أَهْلِ الْحَرَمِ، وَهَذَا خَطَأٌ خَالَفَ بِهِ نَصَّ الْمَذْهَبِ وَمُقْتَضَى الْحِجَاجِ؛ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:

<<  <  ج: ص:  >  >>