للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الِافْتِرَاقُ: فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِقَطْعِ الْخِيَارِ، وَلُزُومِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ فِي الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ، وَقَطْعُ هَذَا الْخِيَارِ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ:

إِمَّا بِالِافْتِرَاقِ. وَإِمَّا بِالتَّخْيِيرِ الْقَائِمِ فِي قَطْعِ الْخِيَارِ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ.

فَأَمَّا حَدُّ الِافْتِرَاقِ، فَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مُطْلَقًا، وَمَا أَطْلَقَهُ الشَّرْعُ وَلَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا فِي اللُّغَةِ كَانَ الرُّجُوعُ فِي حَدِّهِ إِلَى الْعُرْفِ كَالْقَبْضِ فِي الْمَبِيعَاتِ، وَالْإِحْرَازِ فِي الْمَسْرُوقَاتِ، فَإِذَا فَارَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ إِلَى حَيْثُ يُنْسَبُ فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ مُفَارِقٌ لَهُ، انْقَطَعَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ، مِثَالُ ذَلِكَ إِنْ تَبَايَعَا فِي دَارٍ فَيَخْرُجُ أَحَدُهُمَا مِنْهَا، فَيَكُونُ هَذَا افْتِرَاقًا سَوَاءٌ صَغُرَتِ الدَّارُ أَوْ كَبُرَتْ، بَعُدَ الْخَارِجُ مِنْهَا أَمْ قَرُبَ.

فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، وَلَكِنْ قَامَ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، نُظِرَ: فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ وَاسِعَةً، كَانَ ذَلِكَ تَفَرُّقًا، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ صَغِيرَةً، لَمْ يَقَعِ التَّفَرُّقُ إِلَّا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا أَوِ الصُّعُودِ إِلَى عُلُوِّهَا.

وَكَذَا السَّفِينَةُ إِذَا تَبَايَعَا فِيهَا؛ فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، لَمْ يَقَعِ التَّفَرُّقُ إِلَّا بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ، أَوْ إِلَى سَفِينَةٍ غَيْرِهَا، أَوْ إِلَى الْمَاءِ. وَإِنْ كَانَتِ السَّفِينَةُ كَبِيرَةً وَقَعَ الِافْتِرَاقُ بِقِيَامِ أَحَدِهِمَا مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، كَأَنَّهُمَا تَبَايَعَا فِي الصَّدْرِ، ثُمَّ قَامَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْمُؤَخَّرِ، أَوْ تَبَايَعَا فِي الْمُؤَخَّرِ ثُمَّ قَامَ أَحَدُهُمَا إِلَى الصَّدْرِ.

فَأَمَّا إِنْ تَبَايَعَا فِي سُوقٍ كَبِيرَةٍ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالتَّفَرُّقُ: أَنْ يُوَلِّيَ أَحَدُهُمَا ظَهْرَهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُوَلِّيَ ظَهْرَهُ وَيَمْشِيَ قَلِيلًا حَتَّى يُزَايِلَ مَوْضِعَ الْعَقْدِ فِي الْعُرْفِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي بُيُوعِهِ.

فَأَمَّا إِذَا كَانَا فِي مَوْضِعِ تَبَايُعِهِمَا وَمَجْلِسِ عَقْدِهِمَا، فَبُنِيَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَفَرُّقًا، لِأَنَّ الْحَائِطَ الْمَبْنِيَّ حَائِلٌ، وَالْحَائِلُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ بِوُقُوفِهِ.

فَأَمَّا إِذَا قَامَا جَمِيعًا عَنْ مَجْلِسِ تَبَايُعِهِمَا، وَمَشَيَا مُجْتَمِعَيْنِ، وَلَمْ يَفْتَرِقَا بِأَبْدَانِهِمَا، فَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ وَبَعُدَ. وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ: أَنَّ خِيَارَهُمَا قَدِ انْقَطَعَ بِمُفَارَقَةِ مَجْلِسِهِمَا.

وَحَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ حَيْثُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ وَقَدْ غَدَوْا عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ لَهُمَا: مَا أَرَاكُمَا تَفَرَّقْتُمَا عَنْ رِضًا مِنْكُمَا بِبَيْعٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ عَقَلَ مَعْنَى الِافْتِرَاقِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي افْتِرَاقِ الْمُتَبَايِعَيْنِ.

فَصْلٌ:

فَأَمَّا حُكْمُ الِافْتِرَاقِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ إِذَا تَمَّ بِوَاحِدٍ، وَهُوَ الْأَبُ إِذَا ابْتَاعَ مِنِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ، أَوْ بَاعَ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>