للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدًا أَبَا عَيَّاشٍ أَخْبَرَهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ قِيلَ نَعَمْ. قَالَ: فَلَا إذًا.

وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَخْبَارِ الثَّلَاثَةِ دَلِيلًا وَتَعْلِيلًا.

اعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: طَعْنُهُمْ فِي رَاوِيهِ فَقَالُوا لَمْ يَرِدْ إِلَّا مِنْ جِهَةِ زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ زَيْدًا أَبَا عَيَّاشٍ ثِقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَوْلًى لِبَنِي مَخْزُومٍ. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِهِ.

الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: قَدْحُهُمْ فِي مَتْنِهِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الرُّطَبَ يَنْقُصُ إِذَا صَارَ تَمْرًا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الِاسْتِفْهَامَ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ التَّقْرِيرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: ١٧] . فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِفْهَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا كَانَ تَقْرِيرًا عَلَى مُوسَى.

كَذَلِكَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَنْقُصُ إِنْ يَبِسَ مِنْ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. وَلَوْ أَجَابَ مِنْ غَيْرِ تَقْرِيرٍ لَكَانَ الْجَوَابُ مَقْصُورًا عَلَى السُّؤَالِ.

الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالْمَشُورَةِ كَأَنْ كَانَ مُشْتَرِي الرُّطَبِ سَأَلَهُ مُسْتَشِيرًا فِي الشِّرَاءِ، فَقَالَ لَا لِأَنَّهُ يَنْقُصُ عَلَيْكَ إِذَا يَبِسَ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ هَذَا تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الْعَادَةَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي سُؤَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ عَنِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا دُونَ الْمَتَاجِرِ الَّتِي قَدْ يُشَارِكُونَهُ فِي الْعِلْمِ بِهَا وَأَنَّ جَوَابَهُ عَنْهَا جَوَابٌ شَرْعِيٌّ وَنَهْيُهُ عَنْهَا نَهْيٌ حُكْمِيٌّ فَلَا جَائِزَ أَنْ يَعْدِلَ بِالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ عَنْ مَوْضُوعِهِمَا وَالْعُرْفِ الْقَائِمِ فِيهِمَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>