للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السَّمْرَاءِ، فَصَارَ فِيهَا كَالْبَصِيرِ وَكَالْأَعْمَى الَّذِي كَانَ بَصِيرًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَصِيرَ لَوْ وُصِفَ لَهُ مَتَاعٌ لَمْ يَرَهُ وَلَا عَرَفَهُ فِي بَلَدٍ تَبْعُدُ عَنْهُ جَازَ أَنْ يُسَلَمَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الصِّفَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إِذَا عَلِمَ تَفَاصِيلَهَا بِاخْتِلَافِهَا. فَكَذَلِكَ سَلَمُ الْأَعْمَى.

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يَصِحُّ مِنْهُ فَقَبَضَهُ عِنْدَ حُلُولِهِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، لِأَنَّ الْقَبْضَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِيفَاءِ الصِّفَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالنَّظَرِ، فَجَرَى مَجْرَى عَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى عَيْنٍ لَا تَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى حَتَّى يُوَكِّلَ فِيهِ بصيرا يعقد عنه أوله.

كذلك لا يصح من الأعمى قبض السلم فِيهِ وَلَا إِقْبَاضُهُ حَتَّى يُوكِّلَ مَنْ يَقْبِضُ لَهُ إِنْ كَانَ مُشْتَرِيًا أَوْ يَقْبِضُ عَنْهُ إِنْ كَانَ بَائِعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:

قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْمَضَامِينُ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ، وَالْمَلَاقِيحُ مَا فِي بُطُونِ الِإِنَاثِ ".

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ. وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَضَامِينَ مَا فِي بُطُونِ الْإِنَاثِ، وَالْمَلَاقِيحِ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ.

وَالثَّانِي: مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ قَالَ المزني وأنشد ابْنُ هِشَامٍ لِصِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَ الشَّاعِرِ:

(إِنَّ الْمَضَامِينَ الَّتِي فِي الصُلْبِ ... مَاءُ الْفُحُولِ في الظهور الحدب)

(ليس بمغن عنك جهد الكرب)

وَأَنْشَدَ أَيْضًا:

(مَنَّيْتَنِي مَلَاقِحًا فِي الْأَبْطُنِ ... تُنْتَجُ مَا يَلْقَحُ بَعْدَ أَزْمُنِ)

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَبَيْعُ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ بَاطِلٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ.

وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الْمَجْرِ وَهُوَ الْحَمْلُ، وَلِنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَفِيهِ غَرَرٌ، فَإِنْ قيل: فإذا كانت هذه البياعات الَّتِي نَهَى عَنْهَا غَرَرًا دَخَلَتْ فِي نَهْيِهِ عَنِ بَيْعِ الْغَرَرِ، فَهَلَّا اكْتَفَى بِذَلِكَ النَّهْيِ عَنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ بِالنَّهْيِ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَلِأَنَّ هَذِهِ بِيَاعَاتٌ قَدْ كَانَتْ مَأْلُوفَةً لَهُمْ فَخَصَّهَا بِالنَّهْيِ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي جملة نهيه عن بيع الغرر لأن لا يَجْعَلُوا الْعَادَةَ الْمَأْلُوفَةَ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْبُيُوعِ مُخَصَّصَةً لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فَكَانَ تَخْصِيصُهَا بِالنَّهْيِ أَوْكَدَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>