للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءُ طَهُوراً} (الفرقان: ٤٨) وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةَ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ التَّطْهِيرُ كَمَا ثَبَتَ لِلْقَاتِلِ اسْمُ الْمَقْتُولِ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْقَتْلُ، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اغْتَسَلَ فَبَقِيَ عَلَى مَنْكِبِهِ لمعةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَعَصَرَ شَعْرَهُ وَأَمَرَّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، وَرَوَتِ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ رَأْسَهُ بِفَضْلِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ بَلَلَ لِحْيَتِهِ فَمَسَحَ بِهَا رَأْسَهُ.

وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ فِي جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهُورَ إِذَا لَاقَى طَاهِرًا لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَهِّرًا قِيَاسًا عَلَى الْجَارِي عَلَى أَعْضَائِهِ تَبَرُّدًا، أَوْ تَنَظُّفًا، قَالُوا: وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ صِفَتَيْنِ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ، فَلَمَّا لَمْ يَسْلُبْهُ الِاسْتِعْمَالُ الطَّهَارَةَ لَمْ يَسْلُبْهُ التَّطْهِيرَ، وَتَحْرِيرُهُ إِنَّ كُلَّ صِفَةٍ كَانَتْ لِلْمَاءِ قَبْلَ مُلَاقَاةِ الْأَعْضَاءِ الطَّاهِرَةِ كَانَتْ لَهُ بَعْدَ مُلَاقَاةِ الْأَعْضَاءِ الطَّاهِرَةِ، قِيَاسًا عَلَى الطَّهَارَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي أداء الطهارة لا يمنع استعمالها كرة مِنْ تَكْرَارِهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ كَالْأَرْضِ وَالثَّوْبِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ رَفْعَ الْحَدَثِ بِالْمَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِهِ ثَانِيًا بِذَلِكَ الْمَاءِ، أَصْلُهُ: إِذَا جَرَى عَلَى الْبَدَنِ مِنْ عُضْوٍ إِلَى عُضْوٍ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) {المائدة: ٦) فَأَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ بِمَا أَمَرَ بِهِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ فَلَمَّا كَانَ غَسْلُ الْوَجْهِ بِمَاءٍ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِمَاءٍ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ نَتَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَيْهِ الْجُنُبُ، وَكَانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى مَا سَبَقَ الْجُنُبُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَلِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.

وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِجْمَاعُهُمْ عَلَى مَنْ قَلَّ مَعَهُ الْمَاءُ فِي سَفَرِهِ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ اسْتِعْمَالَ إِرَاقَةٍ وَإِتْلَافٍ وَلَوْ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ ثَانِيَةً لَمَنَعُوهُ من إراقته في الاستعمال ولا لزموه جمع ذلك لطهارة ثَانِيَةً.

وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَصِرُ على التيمم ولا يستعمله.

والثاني: أن يَسْتَعْمِلُهُ وَيَتَيَمَّمُ لِبَاقِي بَدَنِهِ، وَلَوْ جَازَ اسْتِعْمَالُ الْمُسْتَعْمَلِ لَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ ثُمَّ أَعَادَ اسْتِعْمَالَهُ فِي بَاقِي بَدَنِهِ فَيَكْمُلُ لَهُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ فَظَهَرَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَأَمَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>