للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[(فصل: الماء المستعمل في إزالة النجس)]

وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضُرُوبِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَهُوَ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي إِزَالَةِ نَجَسٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ، أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ، فَهُوَ نجس لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ " وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ النَّجَاسَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي مَحَلِّهَا أَوَ زَائِلَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَالْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهَا نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ مَحَلٍّ نَجِسٍ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ زَالَتْ عَنْ مَحَلِّهَا بِالْمَاءِ حتى صار المحل طاهراً فذهب الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَاءَ الْمُنْفَصِلَ عَنْهَا طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي الْحَدَثِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ نَجِسٌ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مَاءٌ خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ قَالُوا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ يَسْلُبُهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ مِنَ التَّطْهِيرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ يَسْلُبُهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَالتَّطْهِيرِ وَدَلِيلُنَا عَلَى طَهَارَتِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في بول الأعرابي: " صبوا عليه ذنوبا من ماءٍ ". فَلَوْ لَمْ يَصِرِ الْمَاءُ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ طَاهِرًا لَكَانَ أَمْرُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ عَبَثًا، وَلِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا وَرَدَ عَلَى التُّرَابِ النَّجِسِ كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ انْفِصَالِهِ، وِفَاقًا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا بَعْدَ انْفِصَالِهِ حِجَاجًا إِذْ لَيْسَ لَهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ حَالٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ الِانْفِصَالِ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الاعتدال قِيَاسَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ لَاقَى مَحَلًّا نَجِسًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا.

وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ لَا يَنْجَسُ الْمَاءُ بِمُلَاقَاتِهَا لَمْ يَنْجَسْ بِمُفَارَقَتِهَا، كَالْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مَا انْفَصَلَ عَنِ النَّجَاسَةِ إِلَى مَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مَا انْفَصَلَ عَنِ الْأَعْضَاءِ إِلَى مَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا وَكَانَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي رَفْعِ الْحَدَثِ هُوَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ بَيْنَهُمَا فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ.

فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَكُونُ بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَالتَّنْجِيسُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَبِالْمُلَاقَاةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ فَاسْتَوَى الْحُكْمُ فِي الْحَالَيْنِ.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ وَبَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ فِي تَنْجِيسِهِ فِي الْحَالَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ وَارِدٌ بَيْنَهُمَا من وجهين:

<<  <  ج: ص:  >  >>