للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابُ نِكَاحِ حَرَائِرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَائِهِمْ وَإِمَاءِ المسلمين من الجامع ومن كتاب ما يحرم الجمع بينه، وغير ذلك

[مسألة]

قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمُ الْيَهُودُ والنصارى دون المجوس والصابئون وَالسَّامِرَة مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أنهم يخلفونهم فِي أَصْلِ مَا يُحِلُّونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيُحَرِّمُونَ فيحرمون كالمجوس وإن كانوا يخالفونهم عَلَيْهِ وَيَتَأَوَّلُونَ فَيَخْتَلِفُونَ فَلَا يُحَرَّمُونَ ".

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَقِسْمٌ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ.

فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَكِتَابُ الْيَهُودِ التَّوْرَاةُ وَنَبِيُّهُمْ مُوسَى وَكِتَابُ النَّصَارَى الْإِنْجِيلُ وَنَبِيُّهُمْ عِيسَى، وَكِلَا الْكِتَابَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ وَمُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدَىً للنَّاسِ) {آل عمران: ٣ - ٤) قد نُسِخَ الْكِتَابَانِ وَالشَّرِيعَتَانِ أَمَّا الْإِنْجِيلُ فَمَنْسُوخٌ بِالْقُرْآنِ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ مَنْسُوخَةٌ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَدِينُ اليهودية فقد اختلف أصحابنا بماذا نسخ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّوْرَاةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِنْجِيلِ وَالْيَهُودِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّصْرَانِيَّةِ ثُمَّ نَسَخَ الْقُرْآنُ الْإِنْجِيلَ، وَنَسَخَ الْإِسْلَامُ النَّصْرَانِيَّةَ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ دَعَا الْيَهُودَ إِلَى دِينِهِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِإِنْجِيلِهِ فَلَوْ لَمْ يَنْسَخْ دينهم بدينه وكتابهم بكتابه لأقرهم ولدعى غَيْرَهُمْ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّوْرَاةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقُرْآنِ وَالْيَهُودِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنَّ مَا لَمْ يُغَيَّرْ من التوراة قبل القرآن حق، وما تغير مِنَ الْيَهُودِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَأَنَّ عِيسَى إنما دعى الْيَهُودَ؛ لِأَنَّهُمْ غَيَّرُوا كِتَابَهُمْ وَبَدَّلُوا دِينَهُمْ فَنَسَخَ بِالْإِنْجِيلِ مَا غَيَّرُوهُ مِنْ تَوْرَاتِهِمْ وَبِالنَّصْرَانِيَّةِ مَا بَدَّلُوهُ مِنْ يَهُودِيَّتِهِمْ، ثُمَّ نَسَخَ الْقُرْآنُ حينئذٍ جَمِيعَ تَوْرَاتِهِمْ، وَنَسَخَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ يَهُودِيَّتِهِمْ لِأَنَّ الأنبياء قد كانوا يحفظون من الشرائع التبديل، وينسخون منها مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ، كَمَا نَسَخَ الْإِسْلَامُ فِي آخِرِ الْوَحْيِ خَاصًّا مِنْ أَوَّلِهِ فَأَمَّا نَسْخُ الشرائع المتقدمة على العموم فلم يكن إلا بالإسلام الذي هو خاتمة الشرائع، بالقرآن الَّذِي هُوَ خَاتِمَةُ الْكُتُبِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يكون الداخل في اليهودية بعد عيسى على بَاطِل، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي عَلَى حَقٍّ مَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ غَيَّرَ وَبَدَّلَ، فَأَمَّا بَعْدَ الإسلام فالداخل في اليهودية والنصرانية على باطل.

<<  <  ج: ص:  >  >>