للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هذه الشرائط، وَيَكُونُ نِكَاحُهَا كَنِكَاحِ الْحُرَّةِ.

فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الطَّوْلِ وَخَوْفَ الْعَنَتِ غَيْرُ مُعْتَبَرَيْنَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي نِكَاحِ مَا طاب من الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ} (النساء: ٣) يَعْنِي فَنِكَاحُ وَاحِدَةً مِنَ الْحَرَائِرِ أَوْ نِكَاحُ وَاحِدَةً مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَانَ هَذَا نَصًّا فَصَارَ أَوَّلُ الْآيَةِ دَلِيلًا مِنْ طَرِيقِ الْعُمُومِ وَآخِرُهَا دَلِيلًا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ، وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٌ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) {البقرة: ٢٢١) وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ الْحُرَّةَ مِنْ غير شرطٍ فالأمة المؤمنة هي التي خَيْرٌ مِنْهَا أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ نِكَاحُهَا.

وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ لَيْسَ تحتَهُ حُرَّةٌ فَجَازَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ كَالْعَادِمِ لِلطَّوْلِ وَالْخَائِفِ لِلْعَنَتِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ إِذَا خَشِيَ الْعَنَتَ حَلَّ لَهُ نِكَاحُهَا، وَإِنْ أَمِنَ الْعَنَتَ كَالْعَبْدِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّ لَهُ نكاحها إذا لم يجد طولاً حل نِكَاحُهَا، وَإِنْ وَجَدَ طَوْلًا كَالْحُرَّةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَلِيمٍ مِنْهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ النِّكَاحِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى سَلِيمٍ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى نِكَاحِ الْكَافِرَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مُسْلِمَةٍ ولا وُجُودَ نِكَاحِ الْأُخْتِ يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا وَوُجُودَ مَهْرِهَا لَا يَمْنَعُ؛ كَذَلِكَ وُجُودُ الْحُرَّةِ يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَوُجُودُ مَهْرِهَا لَا يَمْنَعُ.

وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طُوْلاً أَنْ يَنْكَحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنَ فَتَيَاتِكُمْ المُؤْمِنَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ وَأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) {النساء: ٢٥) فَأَبَاحَ نِكَاحَ الْأَمَةِ بِشَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الطَّوْلِ.

وَالثَّانِي: خَوْفُ الْعَنَتِ.

فَأَمَّا الطَّوْلُ: فَهُوَ الْمَالُ وَالْقُدْرَةُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطُّولِ؛ لِأَنَّهُ يَنَالُ به معالي الأمور كما ينال الطول مَعَالِيَ الْأَشْيَاءِ.

وَأَمَّا الْعَنَتُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الزِّنَا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْحَدُّ الَّذِي يُصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا.

فَلَمَّا جَعَلَ الْإِبَاحَةَ مُقَيَّدَةً بِهَذَيْنِ الشرطين لم يصح نكاحهما إلا بهما.

فإن قالوا هذا الاحتجاج بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ حُجَّةٍ، فَعَنْهُ جوابان:

أحدهما: أنه دليل خطاب عندنا حجة فجاز أن هي دلائلنا على أصولها.

وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ شَرْطٌ عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ؛ لأن لفظة " من " موضعه للشرط ويكون

<<  <  ج: ص:  >  >>