للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ: وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ بِهِمَا حُكْمًا وَفِعْلًا يوجب الْفُرْقَة بَيْنَهُمَا قِيَاسًا عَلَى سَبْيِ أَحَدِهِمَا وَاسْتِرْقَاقِهِ.

قَالَ: وَلِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ غَلَبَةٍ، وَقَهْرٍ، لِأَنَّ مَنْ غَلَبَ فِيهَا عَلَى شَيْءِ مَلَكَهُ أَلَا تَرَى لَوْ غَلَبَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ صَارَ الْعَبْدُ حُرًّا وَصَارَ السَّيِّدُ لَهُ عَبْدًا وَلَوْ غَلَبَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى نَفْسِهِ بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَصَارَ الزَّوْجُ لَهَا عَبْدًا فَاقْتَضَى أَنْ تَصِيرَ الزَّوْجَةُ بِإِسْلَامِهَا إِذَا هَاجَرَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُتَغَلِّبَةً عَلَى نَفْسِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ نِكَاحُهَا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ما روي أن أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَسْلَمَا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَهِيَ بِحُلُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيها واستيلائه عليها دار الإسلام وَزَوْجَتَاهُمَا عَلَى الشِّرْكِ بِمَكَّةَ وَهِيَ إِذ ذَاكَ دار الحرب ثُمَّ أَسْلَمَتَا بَعْدَ الْفَتْحِ فَأَقَرَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على النكاح.

فَإِنْ قِيلَ: مَرُّ الظَّهْرَانِ مِنْ سَوَادِ مَكَّةَ، وتابعة لها في الحكم فلم يكن إسلامها إلا في دار واحدة، ففيه جوابان:

أحدهما: أن مر الظهران دار الخزاعة مُحَازَةٌ عَنْ حُكْمِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ خُزَاعَةَ كَانَتْ فِي حِلْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي حِلْفِ قُرَيْشٍ، وَلِنُصْرَةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِخُزَاعَةَ صَارَ إِلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ.

وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَرَّ الظَّهْرَانِ لَوْ كَانَ مِنْ سَوَادِ مكة لجاز أَنْ يَنْفَرِدَ عَنْ حُكْمِهَا بِاسْتِيلَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ سَوَادَ بَلَدٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ صَارَ ذَلِكَ السَّوَادُ دَارَ إِسْلَامٍ، وإن كان البلد دار الحرب وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، هَرَبَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ إِلَى الطَّائِفِ، وَهَرَبَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مُشْرِكَيْنِ فَأَسْلَمَتْ زوجاتهما بِمَكَّةَ، وَكَانَتْ زَوْجَةُ صَفْوَانَ بَرْزَةَ بِنْتَ مَسْعُودِ بن عمرو الثقفي، وزوجة عكرمة أم عكيم بنت الحارث به هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَخَذَتَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَانًا لَهُمَا فَدَخَلَ صَفْوَانُ مِنَ الطَّائِفِ بِالْأَمَانِ وَأَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ حَتَّى شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُنَيْنًا وَأَعَارَهُ سِلَاحًا ثُمَّ أَسْلَمَ، وَعَادَ عِكْرِمَةُ من ساحل البحر وَقَدْ عَزَمَ عَلَى رُكُوبِهِ هَرَبًا فَأَسْلَمَ فَأَقَرَّهُمَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ زَوْجَتَيْهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بِهِمَا لِأَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ بِالْفَتْحِ دَارَ إِسْلَامٍ، وكانت الطائف والساحل دار حرب.

فَإِنْ قِيلَ: هُمَا مِنْ سَوَادِ مَكَّةَ وَفِي حكمهما.

فالجواب عنه بما مضى.

ومن القياس: أنه إسلام بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ فِي العدة أن لا تقع بِهِ الْفُرْقَةُ قِيَاسًا عَلَى اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ وَلِأَنَّ مَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِهِ مُنْتَظَرَةً لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَمَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ مُعَجَّلَةً، لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اتِّفَاقُ الدَّارَيْنِ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَوَجَبَ أَنْ يكون الْفُرْقَةُ بِالْإِسْلَامِ مُلْحَقَةً بِأَحَدِهِمَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>