للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمَجَازُ لَا يَقُومُ مَقْصُودُهُ إِلَّا بِقَرِينَةٍ، فَلِذَلِكَ افْتَقَرَتِ الْكِنَايَةُ إِلَى نِيَّةٍ، وَلَمْ يَفْتَقِرِ الصَّرِيحُ إِلَى نِيَّةٍ.

وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكِنَايَةَ إِذَا وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ مَعَ النِّيَّةِ كَالْبَائِنِ وَالْبَتَّةِ والخلية والبرية كَانَ رَجْعِيًّا، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ بَائِنًا، لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ.

(مَسْأَلَةٌ:)

قال الشافعي: (وَلَوْ كَتَبَ بِطَلَاقِهَا فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا إِلَّا بِأَنْ يَنْوِيَهُ كَمَا لَا يَكُونُ مَا خَالَفَهُ الصَّرِيحُ طَلَاقًا إِلَّا بِأَنْ يَنْوِيَهُ) .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ الْكَلَامِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فِعْلٌ وَكِنَايَةٌ وَإِشَارَةٌ، فَأَمَّا الْفِعْلُ: مِثْلُ الضَّرْبِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الْمَنْزِلِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْإِبْعَادِ وَالطَّرْدِ، فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ وَعِنْدَ مَالِكٍ يَكُونُ طَلَاقًا، لِأَنَّهُ يُوقِعُ الطَّلَاقَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، فَأَوْلَى أَنْ يُوقِعَهُ بِالْفِعْلِ مَعَ النِّيَّةِ وَفِيمَا مَضَى مِنَ الدَّلِيلِ، عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالنِّيَّةِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِالْفِعْلِ، وَإِنِ اقْتَرَنَتْ بِهِ النِّيَّةُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا: أَنَّ الطَّلَاقَ أَعْظَمُ حُكْمًا مِنَ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ، لِأَنَّهُ يُسَاوِيهِمَا فِي قَصْدِ التَّحْرِيمِ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِمَا فِي رَفْعِ الْعَقْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ إِلَّا بِقَوْلِهِ دُونَ النِّيَّةِ وَالْفِعْلِ، كَانَ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ أَوْلَى.

(فَصْلٌ:)

وَأَمَّا الْكِنَايَةُ وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ بِخَطِّ يَدِهِ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَدْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهَا صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ كَالْكَلَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْذَرَ بِكُتُبِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: ٩١] . وَقَدْ بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرسالة بمكاتبة من كَاتِبِهِ، وَلِأَنَّهَا تَقُومُ فِي الْإِفْهَامِ مَقَامَ الْكَلَامِ، ثُمَّ هِيَ أَعَمُّ مِنْ إِفْهَامِ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُخْتَصِّ بِإِفْهَامِ الْحَاضِرِ دُونَ الْغَائِبِ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي مَوْضِعِ الْكَلَامِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَارِيَةً فِي الْحُكْمِ مَجْرَى الْكَلَامِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ خَطًّا، وَأَقَامُوهُ مَقَامَ تَلَفُّظِهِمْ بِهِ نُطْقًا، حَتَّى صَارَ مَا تَضَمَّنَهُ إِجْمَاعًا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ صَرِيحًا فِي الْكَلَامِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الصَّرِيحِ مِنَ الْكَلَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَرْسَلَ رَسُولَهُ نَذِيرًا لِأُمَّتِهِ وَمُبَلِّغًا لِرِسَالَتِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: ١٩٩] . فَلَوْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ كَالْكَلَامِ الصَّرِيحِ، لَمَكَّنَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مِنْهَا، وَلَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا لِيَكُونَ مَعَ تَكْلِيفِ الْإِنْذَارِ مُمَكَّنًا مِنْ آلَائِهِ، وَكَامِلًا لِصِفَاتِهِ، وَمُعَانًا عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِ، حَتَّى لَا يَنَالَهُ نَقْصٌ فَيُقَصِّرَ، وَلَا ضَعْفٌ فَيَعْجِزَ، وَلَكَانَ لَا يَبْعَثُ رَسُولًا،

<<  <  ج: ص:  >  >>