للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِثْلَهُ لَا يُكَلَّمُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ مَيِّتٌ، وَالنَّائِمُ وَالْمَيِّتُ لَا يُكَلَّمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم: ٥٢] .

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ، وَهُمْ فِي الْقَلِيبِ فَقَالَ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، قَيْلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكَلِّمُ أَمْوَاتًا لَا يَسْمَعُونَ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَأَسْمَعُ مِنْكُمْ، وَلَكِنَّهُ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ، فَصَارَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يُكَلَّمَ، فَاقْتَضَى أَنْ يَقَعَ الْحِنْثُ بِكَلَامِهَا لَهُ مَيِّتًا.

قِيلَ: هَذَا هُوَ الْحُجَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُكَلَّمُ؛ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا كَلَامَهُ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ مُكَلَّمًا مَا أَنْكَرُوهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى، رَدَّ أَرْوَاحَهُمْ إِلَيْهِ، حِينَ كَلَّمَهُمْ مُعْجِزَةً خَصَّ بِهَا رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا يُعِيدُ أَرْوَاحَهُمْ لِسَائِلِهِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَلَوْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ سَكْرَانُ لَا يَشْعُرُ بِالْكَلَامِ وَلَا يَسْمَعُهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ لَا يُكَلَّمُ كَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ.

(فَصْلٌ:)

وَلَوْ كَاتَبَتْهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَكُونُ كَلَامًا، وَإِنْ قَامَتْ فِي الْإِفْهَامِ مَقَامَ الْكَلَامِ، وَهَكَذَا لَوْ رَاسَلَتْهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ دُونَهَا، وَإِنْ كَانَ مُبَلِّغًا عَنْهَا، وَلَوْ أَشَارَتْ إِلَيْهِ بِالْكَلَامِ إِشَارَةً فَهِمَ بِهَا مُرَادَهَا، فَإِنْ كَانَ نَاطِقًا سَمِيعًا، لَمْ يَحْنَثْ بِإِشَارَتِهَا إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا، فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: ١٠، ١١] فَلَمْ يَجْعَلِ الْإِشَارَةَ كَلَامًا، وَإِنْ قَامَتْ مَقَامَهُ فِي الْإِفْهَامِ، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ الْكَلَامَ إِلَّا بِالْإِشَارَةِ فَفِي حِنْثِهِ، بِإِشَارَتِهَا إِلَيْهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لَيْسَتْ كَلَامًا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا يُكَلَّمُ الْأَصَمُّ، وَلَوْ كَلَّمَتْ رَجُلًا آخَرَ كَلَامًا سَمِعَهُ زَيْدٌ؛ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهَا مُكَلِّمَةٌ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَلَّمَتِ الْحَائِطَ كَلَامًا لَمْ يَسْمَعْهُ إِلَّا زَيْدٌ فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ كَمَا لَوْ كَلَّمَتْ غَيْرَهُ فَسَمِعَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُكَلَّمُ، فَصَارَ الْكَلَامُ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُكَلَّمَ وَلَوْ سَلَّمَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ وَفِيهِمْ زَيْدٌ فَإِنْ لَمْ تَعْزِلْهُ بِنِيَّتِهَا حَنِثَ، وَإِنْ عَزَلَتْهُ بِنِيَّتِهَا فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>