للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ زِنَا الرَّجُلِ بِزِنَا الْمَرْأَةِ، وَزِنَا الْمَرْأَةِ تَمْكِينٌ وَزِنَا الرَّجُلِ فِعْلٌ، فَإِذَا نُسِبَ الرَّجُلُ إِلَى التَّمْكِينِ وَسُلِبَ الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ زَانِيًا فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ قَذْفًا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قَذْفٌ: هُوَ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ الْمَعْنَى مَعْقُولَ الْمُرَادِ ثَبَتَ حُكْمُهُ صَوَابًا كَانَ أَوْ لَحْنًا كَالَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَمَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهَا: يَا زَانِيَةُ، إِرَادَةُ الْقَذْفِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: يَا زَانِ، وَتَحْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي مَقْذُوفٍ كَانَ صَرِيحًا فِي كُلِّ مَقْذُوفٍ كَاللَّفْظِ الْمُذَكَّرِ فِي النِّسَاءِ، وَلِأَنَّ الْعَلَامَةَ الْفَاصِلَةَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ تَسْقُطُ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْغَيْرِ كَقَوْلِهِ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ، وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ اسْتَوَى الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ فِي حُكْمِ تَذْكِيرِهِ اسْتَوَيَا فِي حُكْمِ تَأْنِيثِهِ كَالْعِتْقِ وَلِأَنَّ دُخُولَ الْهَاءِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُذَكِّرِ مَوْضُوعٌ لِلْمُبَالَغَةِ دُونَ السَّلْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: ١٤] . كقولهم: علامة ونساية، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ دُخُولِهَا لِلْمُبَالِغَةِ أَنْ تَسْلُبَ لَفْظَ الْقَذْفِ حُكْمَهُ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْهَاءِ الَّتِي لَا يَفْتَقِرُ اللَّفْظُ إِلَيْهَا إِنْ لَمْ تُوجِبْ زِيَادَةَ الْحُكْمِ لَمْ تَقْتَضِ نُقْصَانًا مِنْهُ لِأَنَّ أَسْوَأَ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ لَغْوًا.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عن استدلالهم بأن المؤنث يذكر والمؤنث لَا يُؤَنَّثُ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَذْكِيرُ الْمُؤَنَّثِ وَلَا تَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ لِمَا فِيهِ مِنَ اشْتِبَاهِ اللَّفْظِ وَإِشْكَالِ الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا الْهَاءُ الْمَوْضُوعَةُ لِلتَّأْنِيثِ رُبَّمَا حُذِفَتْ مِنَ الْمُؤَنَّثِ كَقَوْلِهِمْ " عَيْنٌ كَحِيلٌ "، وَ " كَفٌّ خَصِيبٌ "، وَأُدْخِلَتْ عَلَى الْمُذَكَّرِ كَقَوْلِهِمْ: " رَجُلٌ دَاهِيَةٌ وَرَاوِيَةٌ "، فَصَارَ حَذْفُهَا مِنَ الْمُؤَنَّثِ كَدُخُولِهَا عَلَى الْمُذَكَّرِ إِذَا زَالَ الْإِشْكَالُ عَنْهُمَا فَلَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ - فَأَمَّا قوله تعالى: {وقال نسوة فى المدينة} فَلِأَنَّ فِعْلَ الْمُؤَنَّثِ إِذَا تَقَدَّمَ ذُكِّرَ جَمْعُهُ وَأُنِّثَ وَاحِدُهُ - كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْجَمْعِ: " وقال نسوة " وقال في الواحدة: {قالت امرأة الْعَزِيزِ} [يوسف: ٥١] فَأَمَّا إِذَا تَأَخَّرَ الْفِعْلُ عَنْهُنَّ كَانَ مُؤَنَّثًا فِي الْجَمْعِ وَالِانْفِرَادِ تَقُولُ: النِّسَاءُ قُلْنَ وَالْمَرْأَةُ قَالَتْ.

أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: ٧٨] فَعَنْهُ جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّبِّ بِأَنَّهُ الشَّمْسُ وَلَمْ يُشِرْ بِهِ إِلَى الشَّمْسِ بِأَنَّهَا الرَّبُّ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى شُعَاعِ الشَّمْسِ وَشُعَاعُهَا مُذَكَّرٌ.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْكَلِمَةِ تُغَيِّرُ معناها فَهُوَ: وَإِنْ غَيَّرَتْ لِلْمُبَالَغَةِ دُونَ السَّلْبِ إِثْبَاتًا لِلزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ، وَقَوْلُهُمْ: تَصِيرُ كِنَايَةً لِخُرُوجِهَا عَنِ الْمَعْهُودِ فَتَعْلِيلٌ يَنْتَقِضُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ لَهَا: يَا زَانِ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ أَضَافَ إِلَى الرَّجُلِ زِنَا الْمَرْأَةِ فَسَلَبَهُ فِعْلَ الزِّنَا فَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ زِنَا كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَافٌ إِلَى فِعْلِهِ لَا إِلَى فِعْلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>