للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا مَنْفَعَةُ اللِّسَانِ فَالْمُعْتَمَدُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:

أَحَدُهَا: الْكَلَامُ الَّذِي يُعَبِّرُ بِهِ عَمَّا فِي نَفْسِهِ وَيَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى إِرَادَتِهِ وَلِأَهْلِ التَّأْوِيلِ في قوله تعالى: {خلق الإنسان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: ٢، ٣] تَأْوِيلَانِ.

أَحَدُهُمَا: الْخَطُّ.

وَالثَّانِي: الْكَلَامُ.

وَالثَّانِي: مِنْ مَنَافِعِ اللِّسَانِ حَاسَّةُ ذَوْقِهِ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ مَلَاذَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَيَعْرِفُ بِهِ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْحُلْوِ وَالْحَامِضِ، وَالَمُرِّ وَالْعَذْبِ.

وَالثَّالِثُ: الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي أَكْلِ الطَّعَامِ وَمَضْغِهِ وَإِدَارَتِهِ فِي لَهَوَاتِهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ طَحْنَهُ في الأضرس وَيَدْفَعَ بَقَايَاهُ مِنَ الْأَشْدَاقِ.

وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَجْلِ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يُتَوَصَّلُ بِغَيْرِ اللِّسَانِ إِلَيْهَا، فَكَانَ مِنْ أَجَلِّ الْأَعْضَاءِ نَفْعًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً إِذَا كَانَ نَاطِقًا سَلِيمًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ لِسَانِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْمُتَكَلِّمِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَعْجَمِيَّةِ، والفصيح والألكن، والثقيل والعجل.

[(مسألة)]

قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ خَرَسَ فَفِيهِ الدِّيَةُ ".

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا جَنَى عَلَى لِسَانِهِ فَأَذْهَبَ كَلَامَهُ حَتَّى خَرِسَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِحَرْفٍ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كاملة، لأنه قد سلبه أعظم منافعه ذهابة، لأن محل مِنَ اللِّسَانِ مَحَلُّ ذَهَابِ الْبَصَرِ مِنَ الْعَيْنِ، ولو جنى عليه فأذهب حاسة ذوقه وسلمه لَذَّةَ طَعَامِهِ حَتَّى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ طَعْمِ الْحُلْوِ وَالْحَامِضِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، لِأَنَّ الذَّوْقَ أَحَدُ الْحَوَاسِّ الْمُخْتَصَّةِ بِعُضْوٍ خَاصٍّ فَأَشْبَهَ حَاسَّةَ السَّمْعِ وَالشَّمِّ، وَالذَّوْقُ أَنْفَعُ مِنَ الشَّمِّ وَآكَدُ، فَكَانَ بِكَمَالِ الدِّيَةِ أَحَقَّ.

فَإِنْ جَمَعَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى لِسَانِهِ بَيْنَ ذَهَابِ كَلَامِهِ وَذَهَابِ ذَوْقِهِ كَانَ عَلَيْهِ دِيَتَانِ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ، وَقَدْ يَصِحُّ بَقَاءُ الذَّوْقِ مَعَ قَطْعِ اللِّسَانِ لِأَنَّ حَاسَّةَ الذَّوْقِ تُدْرَكُ بِعَصَبِ اللِّسَانِ فَإِذَا بَقِيَ مِنْ عَصَبِهِ فِي أَصْلِهِ بَقِيَّةٌ كَانَ الذَّوْقُ بِهَا بَاقِيًا فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَحَتَّمُ قَطْعُهُ إِلَّا بِذَهَابِ كَلَامِهِ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِقَطْعِهِ اسْتِئْصَالُ الْعَصَبِ حَتَّى ذَهَبَ ذوقه وجبت عليه حينئذ ديتان، وإذ وَجَبَ بِمَا ذَكَرْتُ أَنْ يَلْزَمَ فِي ذَهَابِهِ الذَّوْقَ الدِّيَةُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى مَعَ قَطْعِ اللِّسَانِ وَتَذْهَبَ مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ إِذَا ذَهَبَ حِسُّ الْعَصَبِ تَعَلَّقَ بِكَمَالِ الدِّيَةِ بِذَهَابِ جَمِيعِ الذَّوْقِ، فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَذَاقِ الطُّعُومِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ نَقَصَ ذَوْقُهُ بِالْجِنَايَةِ فنقصانه ضربان:

<<  <  ج: ص:  >  >>