للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: ٥٠] وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ لو حكى عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لَمَا قَالَ: وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَيَصِيرُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَبِمَا قَالَ بَعْدَهُ فَتُبْرِئُكُمْ يهود بخمسين يميناً خَارِجًا عَنِ الْإِنْكَارِ وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْأَلِفَ لِيَخْرُجَ عَنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَحْلِفُونَ شَبِيهٌ بِالْأَمْرِ الْمَحْتُومِ فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفَ لِلِاسْتِفْهَامِ لِيَصِيرَ تَفْرِيقًا لِلْحُكْمِ وَاسْتِخْبَارًا عَنِ الْحَالِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهَذَا نَصٌّ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ وَاسْتَثْنَى مِنْهَا الْقَسَامَةَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا عَلَى دُونِ الْمُنْكِرِ. فَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ " وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ) يُرِيدُ بِهِ اخْتِصَاصَهَا بِالْمُنْكِرِ دُونَ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ " إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ) يُرِيدُ بِهِ وُجُوبَهَا عَلَى الْمُنْكِرِ وَعَلَى غَيْرِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِثْبَاتًا لِيَمِينِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ نَفْيًا لِيَمِينِهِ.

وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: " وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ يَبْرَأُ بِيَمِينِهِ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِيَمِينِهِ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيًا مِنَ الْإِثْبَاتِ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ أَبْعَدُ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ اللَّفْظُ مِنَ الْيَمِينِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ الْبَرَاءَةِ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ عَنِ الْمَذْكُورِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ.

وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ أَيْمَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ لَا يُحْكَمُ لَهُمْ بِمُوجِبِهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَرْمُونَ عِنْدَ الْمُسْتَحْلِفِ إِذَا حَلَفُوا وَالْيَمِينُ تَسْتَحِقُّ إِمَّا فِيمَا يَأْخُذُ بِهَا الْحَالِفُ لِنَفْسِهِ مَا ادَّعَى وَإِمَّا لِيَدْفَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا أَنْكَرَ فَنَقُولُ كُلُّ يَمِينٍ لَا يُحْكَمُ لِلْحَالِفِ بِمُوجِبِهَا لَمْ يَجُزِ الِاسْتِحْلَافُ بِهَا قِيَاسًا عَلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي فِي غَيْرِ الدِّمَاءِ وَعَلَى يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ بِالْحَقِّ فَإِنْ قِيلَ هَذَا مُنْتَقَضٌ بِأَيْمَانِ الْمُتَبَايِعِينَ إِذَا تَحَالَفَا فِي الثَّمَنِ يَسْتَحْلِفَانِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِمُوجِبِهَا قِيلَ قَدْ يُحْكَمُ بِمُوجِبِهَا إِذَا حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَلَا يُحْكَمُ بِمُوجِبِهَا إِذَا حَلَفَا لِتَعَارُضِهِمَا كَمَا يُحْكَمُ بِالْبَيِّنَةِ إِذَا انْفَرَدَتْ وَلَا يُحْكَمُ بِهَا إِذَا تَعَارَضَتْ، فَإِنْ قِيلَ فَأَنْتُمْ لَا تَحْكُمُونَ بِمُوجِبِ الْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ لِأَنَّ مُوجَبَهَا الْقَوَدُ وَأَنْتُمْ لَا تُوجِبُونَهُ قِيلَ: مُوجِبُهَا ثُبُوتُ الْقَتْلِ وَقَدْ أَثْبَتْنَاهُ وَلَنَا فِي الْقَوَدِ قَوْلٌ نَذْكُرُهُ، وَمِنَ الدَّلِيلِ أَنَّهَا أَيْمَانٌ تَكَرَّرَتْ فِي الدَّعْوَى شَرْعًا فَوَجَبَ أَنْ يُبْدَأَ فِيهَا بِالْمُدَّعِي كَاللِّعَانِ فَإِنْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللِّعَانُ يَمِينًا دَلَّلْنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>