للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الِامْتِنَاعِ مِنِ اسْتِحْلَافِهِ هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ فَإِنْ أُحْلِفَ فِي حَالِ سُكْرِهِ أَجْزَأَ، لِأَنَّنَا نُجْرِي عَلَيْهِ فِي السُّكْرِ أَحْكَامَ الْمُفِيقِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِي حَالِ سُكْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ، لِمَا قَدَّمَنَا مِنْ وَضْعِ الْيَمِينِ لِلزَّجْرِ وَسُكْرُهُ يَصُدُّ عَنِ الِانْزِجَارِ.

وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَنْعَ الشَّافِعِيِّ مِنِ اسْتِحْلَافِهِ فِي السُّكْرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ. فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ بِوُقُوعِ طَلَاقِهِ وَصِحَّةِ ظِهَارِهِ وَثُبُوتِ رِدَّتِهِ، وَمُنِعَ مِنْ إِحْلَافِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ مِنْ رِدَّتِهِ حَتَّى يُفِيقَ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي جَمِيعِهَا أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ وَفِيمَا عَلَيْهِ مِمَّا ضَرَّهُ أَوْ نَفَعَهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَيَحْمِلُ مَنْعَهُ مِنْ إِحْلَافِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ، وَإِنَّهُ إِنْ حَلَفَ وَتَابَ صَحَّتْ أَيْمَانُهُ وَتَوْبَتُهُ كَالْمُفِيقِ فَعَلَى هَذَا لَا دَلِيلَ لِلْمُزَنِيِّ فِيهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة إنه يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا عَلَيْهِ مِمَّا يَضُرُّهُ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ مِمَّا يَنْفَعُهُ، لِأَنَّ السُّكْرَ مَعْصِيَةٌ تُوجِبُ التَّغْلِيظَ فَاخْتُصَّ بِلُزُومِ أَغْلَظِ الْحُكْمَيْنِ وَسُقُوطِ أَخَفِّهِمَا فَعَلَى هَذَا لَا دَلِيلَ لِلْمُزَنِيِّ فِيهِ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ تَغْلِيظٌ وَصِحَّةُ الْأَيْمَانِ تَخْفِيفٌ وَاللَّهُ أعلم.

[(مسألة)]

قال الشافعي رضي الله عنه: " وَقَدْ قِيلَ لَا يَبْرَأُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إِلَّا بِخَمْسِينَ يَمِينًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُمْ يَمِينٌ غَيْرُهُ وَهَكَذَا الدَّعْوَى فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَقِيلَ يَلْزَمُهُ مِنَ الْأَيْمَانِ عَلَى قَدْرِ الدية في اليد خمس وعشرون وفي الموضحة ثلاثة أيمان قال المزني رحمه الله وقد قال في أول باب من القسامة ولا تجب القسامة في دون النفس وهذا عندي أولى بقول العلماء) .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى تَغْلِيظُ الْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ فَأَمَّا تَغْلِيظُهَا فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ مِنَ الدِّمَاءِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:

أَحَدُهَا: تَغْلِيظٌ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِالْقَسَامَةِ تَغْلِيظًا لِحُكْمِ الدِّمَاءِ وَفِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تُغَلَّظُ فِي النَّفْسِ وَلَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا سَقَطَتِ الْقَسَّامَةُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدَّعَاوَى وَالْمُسْتَحَقُّ فِيهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>