للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَرْوَانُ فَقَالَ لِي: مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ غَلَبَةً مِنْ أَبِيكَ، مَا كَانَ إِلَّا أَنْ وَلَّيْنَا يَوْمَ الْجَمَلِ حَتَّى نَادَى مُنَادِيهِ: أَلَا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح.

وَلَمَّا وَلَّى الزُّبَيْرُ عَنِ الْقِتَالِ وَخَرَجَ عَنِ الصَّفِّ، قَالَ عَلِيٌّ: أَفْرِجُوا لِلشَّيْخِ فَإِنَّهُ مُحْرِمٌ، فَمَضَى وَأَتْبَعَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ. حَتَّى ظَفِرَ بِاغْتِيَالِهِ فَقَتَلَهُ بِوَادِي السِّبَاعِ وَأَتَى عَلِيًّا بِرَأْسِهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ.

فَقَالَ عَمْرٌو: أُفٍّ لَكُمْ إِنْ كُنَّا مَعَكُمْ أَوْ عَلَيْكُمْ فِي النَّارِ، فَقَامَ وَهُوَ يَقُولُ:

(أَتَيْتُ عَلِيًّا بِرَأْسِ الزُّبَيْرِ ... وَكُنْتُ أَظُنُّ بِهَا زُلْفَتِي)

(فَبَشَّرَ بِالنَّارِ قَبْلَ الْوَعِيدِ ... وَبِئْسَ بِشَارَةُ ذِي التُّحْفَةِ)

وَوَلَّى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ حَتَّى رَمَاهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بِسَهْمٍ فِي أَكْحَلِهِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ فِي عَسْكَرِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلِ سَارَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَعَهُ قَنْبَرٌ مَوْلَاهُ بِمِشْعَلَةٍ يَتَصَفَّحُ الْقَتْلَى، فَمَرَّ بِطَلْحَةَ قَتِيلًا، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَبَكَى وَقَالَ:

أَعْزِزْ عَلَيَّ أَبَا مُحَمَّدٍ أَنْ أَرَاكَ مُجَدَّلًا تَحْتَ نجوم السماء، لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، شَفَيْتُ غَيْظِي وَقَتَلْتُ مَعْشَرِي إِلَى اللَّهِ أَشْكُو عُجَرِي وَبُجَرِي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

فَتًى كَانَ يُعْطِي السَّيْفَ فِي الرَّوْعِ حَقَّهُ إِذَا ثَوَّبَ الدَّاعِي وَيَشْقَى بِهِ الْجَوْرُ

(فَتًى كَانَ يُدْنِيهِ الْغِنَى مِنْ صَدِيقِهِ ... إِذَا مَا هُوَ اسْتَغْنَى وَيُبْعِدُهُ الْفَقْرُ)

(فَصْلٌ)

فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُمْ لَا يُتْبَعُونَ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُنْهَزِمِ إِلَى غَيْرِ دَارٍ يَرْجِعُ إِلَيْهَا، وَإِلَى غَيْرِ إِمَامٍ يَعُودُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَبَيْنَ الْمُنْهَزِمِ إِلَى دَارٍ وَإِمَامٍ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُتْبَعُ الْمُنْهَزِمُ إِلَى غَيْرِ دَارٍ وَإِمَامٍ، وَيُتْبَعُ الْمُنْهَزِمُ إِلَى دَارٍ وَإِمَامٍ وَيُقْتَلُ إِنْ ظُفِرَ بِهِ.

احْتِجَاجًا: بِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَتَّبِعْ مَنِ انْهَزَمَ مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ، لِأَنَّهُمُ انْهَزَمُوا إِلَى غَيْرِ دَارٍ وَإِمَامٍ، وَاتَّبَعَ مَنِ انْهَزَمَ يَوْمَ صِفِّينَ لِأَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى دَارٍ وَإِمَامٍ.

حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ اتَّبَعَ مُدْبِرًا ليقتله فكشف عن سؤته فَكَفَّ عَلِيٌّ طَرْفَهُ وَرَجَعَ عَنْهُ.

قَالَ: وَلِأَنَّ الِانْهِزَامَ مَعَ بَقَاءِ الدَّارِ وَالْإِمَامِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الْبَغْيِ، وَلَا مَانِعًا مِنَ الْعَوْدِ.

وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِأَسِيرٍ يَوْمَ صِفِّينَ، فَقَالَ لَهُ الْأَسِيرُ: أَتَقْتُلُنِي صَبْرًا. فَقَالَ: لَا إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>