للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى مِنْ أُمَّتِي؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ وَلَا يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ وَلَا يُقْسَمُ فَيْئُهُمْ - وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ.

وَلِأَنَّ سِيرَةَ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِمْ كَانَتْ هَكَذَا، وَعَلَيْهَا عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ.

وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِقِتَالِهِمْ كَفُّهُمْ عَنِ الْقِتَالِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ قَتْلَهُمْ.

وَلِأَنَّهُمْ فِي دَفْعِهِمْ عَنِ الْبَغْيِ فِي حُكْمِ الطَّالِبِ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بَعْدَ كَفِّهِ، كَذَلِكَ الْبُغَاةُ، وَهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَتْلُهُمْ بِقِتَالِهِمْ فَافْتَرَقُوا.

فَعَلَى هَذَا: لَوْ قُتِلَ أَسِيرٌ مِنْهُمْ ضَمِنَهُ الْقَاتِلُ بِالدِّيَةِ، وَفِي ضَمَانِهِ بِالْقَوَدِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: يُقَادُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَتْلٌ مَحْظُورُ النَّفْسِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقَادُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ تُدْرَأُ بِالْحُدُودِ.

(فَصْلٌ)

فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ قَتْلَهُمْ بَعْدَ الْإِسَارِ مَحْظُورٌ، فَهُمْ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ أَحْرَارًا بَالِغِينَ، فَيُدْعَوْا إِلَى الْبَيْعَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ أَجَابُوا إِلَيْهَا وَبَايَعُوا الْإِمَامَ عَلَيْهَا أُطْلِقُوا وَلَمْ يَجُزْ حَبْسُهُمْ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَخْذُ رَهَائِنِهِمْ وَلَا إِقَامَةُ كُفَلَائِهِمْ، وَوُكِلُوا إِلَى مَا تَظَاهَرُوا بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَلَمْ يَسْتَكْشِفُوا عَنْ ضَمَائِرِهِمْ.

وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ بَيْعَةِ الْإِمَامِ عَلَى طَاعَتِهِ حُبِسُوا إِلَى انْجِلَاءِ الْحَرْبِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ حَبْسِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي حَبْسِهِمُ امْتِنَاعُهُمْ مِنْ وُجُوبِ الْبَيْعَةِ عَلَيْهِمْ، وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ حُبِسَ بِهِ كَالدُّيُونِ - وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.

فَعَلَى هَذَا: يَكُونُ حَبْسُهُمْ وَاجِبًا عَلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: يُحْبَسُونَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي حَبْسِهِمْ أَنْ تَضْعُفَ مُقَاتَلَةُ الْبُغَاةِ بِهِمْ وَهَذَا أَصَحُّ التَّعْلِيلَيْنِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>