للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَأَمَّا مَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَلَيْسَ بِقَوْلٍ مُخْتَلِفٍ وَإِنَّمَا وَهِمَ بِهِ الْمُزَنِيُّ.

(مَسْأَلَةٌ)

قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ مِنْهُمْ عَدْلٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَرَى أَنْ يَشْهَدَ لِمُوَافِقِهِ بِتَصْدِيقِهِ) .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.

شَهَادَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ إذا كانوا عدولاً مقبولة، ولا يكونوا بِمَا تَأَوَّلُوهُ مِنَ الْبَغْيِ فُسَّاقًا، لِحُدُوثِهِ مِنْهُمْ عَنْ تَأْوِيلٍ سَائِغٍ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُمْ فُسَّاقٌ، لَكِنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّهُ فِسْقٌ مِنْ تَدَيُّنٍ وَاعْتِقَادٍ، وَلِذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا كَانُوا عُدُولًا فِي دِينِهِمْ.

وَقَالَ مَالِكٌ: هُمْ فُسَّاقٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا فِي صِحَّةِ الْعَدَالَةِ مِنْهُمْ وَأَنْ لَا يَصِيرُوا بِالتَّأْوِيلِ الْمُسَوِّغِ فُسَّاقًا أَنَّ الِانْفِصَالَ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى غَيْرِهِ إِذَا كَانَ لَهُ فِي الِاجْتِهَادِ مَسَاغٌ لَا يَقْتَضِي التَّفْسِيقَ، كَالْمُنْتَقِلِ فِي فُرُوعِ الدِّينِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَفْسُقُ بِالِانْتِقَالِ، لِأَنَّهُ عَدَلَ إِلَى مَذْهَبٍ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ.

(فَصْلٌ)

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا إِذَا اجْتَنَبَ مَا يَجْتَنِبُهُ عُدُولُ أَهْلِ الْعَدْلِ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ:

أحدهما: أَنْ يَرَى مَنْ خَالَفَهُ مُبَاحَ الدَّمِ وَالْمَالِ، فيكون بهذه الاستباحة فاسقاً.

والحالة الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْتَقِدَ رَأْيَ الْخَطَّابِيَّةِ، وَهُمْ قَوْمٌ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ لِمُوَافِقِهِمْ عَلَى مُخَالِفِهِمْ فِيمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ، فَيُصَدِّقُهُ، ثُمَّ يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ.

وَبَنَوْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي أَنَّ الْكَذِبَ فِي الْقَوْلِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ مُوجِبٌ لِلْكُفْرِ وَإِحْبَاطِ الطَّاعَاتِ.

فَشَهَادَةُ هَؤُلَاءِ مَرْدُودَةٌ، وَفِي عِلَّةِ رَدِّهَا وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْفِسْقُ، لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ يَرُدُّهُ الْإِجْمَاعُ.

وَالثَّانِي: التُّهْمَةُ مَعَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي مُمَاثَلَةِ مُوَافِقِهِ، فَصَارَ كَشَهَادَةِ الْأَبِ لِابْنِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى عَدَالَةٍ.

فَعَلَى هَذَا: تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إِذَا شَهِدَ بِالْحَقِّ مُطْلَقًا، وَإِنْ شَهِدَ عَلَى إِقْرَار مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَفِي رَدِّ شهادته وجهان:

<<  <  ج: ص:  >  >>