للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ مِنْ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ.

وَالْقَوْلُ الثاني: مخرج من كلام علقه فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، ويكونوا على عدالتهم، ولا يصيروا قَذَفَةً بِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ، فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ: أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ فَدَلِيلُهُ قِصَّةُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ عُمَرَ، وَكَانَ مِنْكَاحًا فَخَلَا بِامْرَأَةٍ فِي دَارٍ كَانَ يَنْزِلُهَا وَيَنْزِلُ مَعَهُ فِيهَا أَبُو بكرة، ونافع وشبل بن معبد ونفيع وزياد بن أمية، وَكَانَ جَمِيعُهُمْ مِنْ ثَقِيفٍ فَهَبَّتْ رِيحٌ فَتَحَتِ الْبَابَ عَنِ الْمُغِيرَةِ فَرَأَوْهُ عَلَى بَطْنِ الْمَرْأَةِ يفعل بها ما يفعل الزوج بزوجته، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَقَدَّمَ الْمُغِيرَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِيُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكَرَةَ: تَنَحَّ عَنْ مُصَلَّانَا، وانتشرت القصة، فبلغت عمر فكتبوا وكتب أَنْ يُرْفَعُوا جَمِيعًا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ حضروا مَجْلِسَهُ بَدَأَ أَبُو بَكَرَةَ فَشَهِدَ بِالزِّنَا وَوَصَفَهُ فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ: ذَهَبَ رُبُعُكَ، ثُمَّ شَهِدَ بعده نافع فقال علي المغيرة ذَهَبَ نِصْفُكَ، ثُمَّ شَهِدَ بَعْدَهُ شِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ: ذَهَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِكَ وَقَالَ عُمَرُ: أَوَدُّ الْأَرْبَعَةَ وَأَقْبَلَ زِيَادٌ لِيَشْهَدَ فقال له عمر: إيها يا سرح العقاب قل ما عندك وأرجوا أن لا يفضح الله على يديك أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَنَبَّهَ زِيَادٌ فَقَالَ: رَأَيْتُ أَرْجُلًا مُخْتَلِفَةً، وَأَنْفَاسًا عَالِيَةً، وَرَأَيْتُهُ عَلَى بَطْنِهَا وَأَنَّ رِجْلَيْهَا عَلَى كَتِفَيْهِ كَأَنَّهُمَا أُذُنَا حِمَارٍ، وَلَا أَعْلَمُ مَا وراء ذلك، فقال عمر: الله اكبر يا أخي قم فاجلد هؤلاء الثلاثة، فجلدوا جلد القذف، وقال عمر لأبي بكرة، تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَتُوبُ، والله لقد زنا، والله لقد زنا، فهم عمر بجلده فقال علي: إن جلدته رجمت صاحبكما، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: إِنْ كان هذا القول منه غير الْأَوَّلِ فَقَدْ كَمُلَتِ الشَّهَادَةُ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ، وَإِنْ كان هو الأول فقد جلد فيه.

والثاني: معناه إِنَّكَ إِنْ جَلَدْتَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أحد من الصحابة فصارت إجماعاً، فاعترض طَاعِنٌ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أحدهما: إن قال لما عَرَّضَ عُمَرُ لِزِيَادٍ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ شَهَادَتَهُ وَفِيهَا إِسْقَاطٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِضَاعَةٌ لِحُدُودِهِ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّعْرِيضِ بِمَا يَدْرَأُ بِهِ الْحُدُودَ، فَإِنَّهُ عَرَّضَ لِمَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَقَالَ: " لعلك قبلت لعلك لامست) لِيَرْجِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، كَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ فِي تَعْرِيضِهِ لِلشَّاهِدِ أَنْ لَا يَسْتَكْمِلَ الشَّهَادَةَ؛ لِأَنَّ جنب المؤمن حمى.

<<  <  ج: ص:  >  >>