للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(فَصْلٌ)

وَلَوْ غَصَبَ رَجُلٌ مَالًا أَوْ سَرَقَهُ وَأَحْرَزَهُ فِي حِرْزٍ لِنَفْسِهِ فَسُرِقَ مِنْهُ فَفِي قطع سارقه وجهان:

أحدهما: يُقْطَعُ بَعْدَ قَطْعِ السَّارِقِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مِنْ حِرْزٍ مِثْلَهُ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ حِرْزِ مُسْتَحِقٍّ فَصَارَ كَغَيْرِ الْمُحْرَزِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْطَعُ إِنْ سَرَقَ مِنَ الْغَاصِبِ وَلَا يُقْطَعُ إِنْ سَرَقَ مِنَ السَّارِقِ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ الْخَصْمُ فِي قَطْعِ هَذَا السَّارِقِ هُوَ الْمَالِكُ دُونَ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ، هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدِي أن على كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِكِ وَالْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ خَصْمٌ فيه؛ أما المالك فلأجل ملكه، وأما الغصب وَالسَّارِقُ فَلِأَجْلِ ضَمَانِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخَصْمُ فِي السَّرِقَةِ الْمَالِكُ، وَفِي الْغَصْبِ الْغَاصِبُ، وَلَيْسَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ إِلَّا عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ السَّارِقَ لَا يُغَرَّمُ السَّرِقَةَ إِذَا قُطِعَ وَهُوَ بناء خلاف على خلاف والله اعلم.

[(مسألة)]

قال الشافعي: " وَيُقْطَعُ الْعَبْدُ آبِقًا وَغَيْرَ آبِقٍ) .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وإما إِذَا كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ آبِقٍ فَقَطْعُهُ إِذَا سَرَقَ وَاجِبٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ آبِقًا فَسَرَقَ فِي إِبَاقِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ قَطْعِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: يُقْطَعُ، سَوَاءٌ طُولِبَ فِي إِبَاقِهِ أَوْ بَعْدَ مَقْدِمِهِ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: لَا يُقْطَعُ، سَوَاءٌ طُولِبَ فِي إِبَاقِهِ أَوْ بَعْدَ مَقْدِمِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِبَاقِ مُضْطَرٌّ، وَلَا قَطْعَ عَلَى مُضْطَرٍّ.

وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: يُقْطَعُ إِنْ طُولِبَ بَعْدَ مَقْدِمِهِ وَلَا يُقْطَعُ إِنْ طُولِبَ فِي إِبَاقِهِ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُ قَضَاءً عَلَى سَيِّدِهِ وَهُوَ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِهِ فِي الْحَالَيْنِ عُمُومُ الآية، ولم يفضل بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ.

وَرَوَى نَافِعٌ أَنَّ عَبْدًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ، فَبُعِثَ بِهِ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَكَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ لِيَقْطَعَهُ، فَقَالَ سَعِيدٌ: كَيْفَ أَقْطَعُ آبِقًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فِي أَيِّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَجَدْتَ هَذَا؟ وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ يُقَامُ عَلَى غَيْرِ الْآبِقِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَامَ عَلَى الْآبِقِ كَحَدِّ الزِّنَا، وِلْأَنَّ الْإِبَاقَ مَعْصِيَةٌ إن لم يزده تغليظاً لم يتغلظ عَنْهُ حَدًّا، فَأَمَّا الِاضْطِرَارُ فَلَوْ كَانَ عِلَّةً لِفَرْقٍ بَيْنَ الْمُضْطَرِّ وَغَيْرِهِ وَلِفَرْقٍ بَيْنَ مَا تدعو الضرورة إليه ولا تدعو.

أما قوله إنه قضاء على السيد، فليس صحيح؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ لَزِمَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>