للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال أبو حنيفة: هذه الشهادة كَامِلَةٌ يَجِبُ بِهَا الْقَطْعُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْجِنْسِ فَلَمْ يُؤَثِّرِ اخْتِلَافُهُمَا فِي الصِّفَةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الصِّفَةِ يَمْنَعُ مِنَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْعَيْنِ فَصَارَ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْجِنْسِ الْمَانِعِ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْعَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ فِيهِمَا سَاقِطًا.

وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ الْخَاصَّةُ الْمُوجِبَةُ للغرم دون القطع فهي شاهد وامرأتان، وشاهد وَيَمِينٌ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ تُوجِبُ الْمَالَ وَلَا تُوجِبُ الحد، وفي السرقة مال وحد، فإن ثبت بَيِّنَةُ الْحُدُودِ جُمِعَ بَيْنَ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ، وَإِنْ قام بَيِّنَةُ الْأَمْوَالِ وَجَبَ الْغُرْمُ دُونَ الْقَطْعِ، وَلَا يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ ذِكْرُ الْحِرْزِ وَصِفَةُ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُمَا شَرْطَانِ فِي الْقَطْعِ دُونَ الْغُرْمِ، وَإِنْ عَدِمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يُقِمْهَا عَلَى حَدٍّ وَلَا مَالٍ أُحْلِفَ السَّارِقُ عَلَى إِنْكَارِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ إِذَا حَلَفَ الْغُرْمُ وَالْقَطْعُ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالْغُرْمِ، فَأَمَّا الْقَطْعُ فَلَا يجب لأنه من حدود الله تعالى الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا تَدْخُلُهَا الْأَيْمَانُ فِي إِثْبَاتٍ وَلَا إِنْكَارٍ فَصَارَتِ الْيَمِينُ فِيهِ مَقْصُورَةً عَلَى الْغُرْمِ دُونَ الْقَطْعِ.

(فَصْلٌ)

وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ إِذَا لَمْ يَحْضُرْ مُدَّعِي السَّرِقَةِ وَكَانَ غَائِبًا عَنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّارِقِ إِقْرَارٌ وَلَا قَامَتْ بِهَا بَيِّنَةٌ لَمْ يُعْتَرَضْ فِيهَا لِلسَّارِقِ بِقَطْعٍ وَلَا غُرْمٍ، وَلَا يُؤْخَذُ بِالتُّهْمَةِ فِي الْحُكْمِ إِلَّا بِمَا يَقُومُ بِهِ أصحاب الريب مِنْ زَوَاجِرِ التَّأْدِيبِ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ وُلَاةُ الْمُعَاوِنِ دون الحكام، وإن ثبتت السَّرِقَةُ فَلِثُبُوتِهَا وَجْهَانِ: بَيِّنَةٌ، وَإِقْرَارٌ، فَإِنْ ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةٌ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ فَالَّذِي نُصَّ عَلَيْهِ فِي السَّرِقَةِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ فَيَدَّعِيَهَا، وَقَالَ فِي الْأُمِّ: إِذَا قَامَتْ عَلَى رَجُلٍ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ زَنَا بِهَا وَسَيِّدُهَا غَائِبٌ أَنَّهُ يُحَدُّ وَلَا يُوقَفُ عَلَى حُضُورِ سَيِّدِهَا، فَخَالَفَ بَيْنَ قَطْعِ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الزِّنَا في الأمة، فاختلف أصحابنا باختلاف هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْجَوَابَ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الزِّنَا وَاحِدٌ يُوقَفَانِ مَعًا عَلَى حُضُورِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَحُضُورِ سَيِّدِ الْأَمَةِ، فَإِنِ ادَّعَيَا ذَلِكَ قُطِعَ السَّارِقُ وَحُدَّ الزَّانِي، وَإِنْ أَنْكَرَاهُ أَوْ ذَكَرَا شُبْهَةً لَهُ فِي الْمِلْكِ أو الْفِعْلِ لَمْ يُقْطَعِ السَّارِقُ وَلَمْ يُحَدَّ الزَّانِي، وَزَعَمَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي حَدِّ الزَّانِي بِالْأَمَةِ سَهْوٌ مِنْ نَاقِلِهِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: هو قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْجَوَابَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْقُولٌ إِلَى الْآخَرِ وَيَكُونَانِ على قولان:

أَحَدُهُمَا: يُقْطَعُ السَّارِقُ وَيُحَدُّ الزَّانِي عَلَى مَا نص عليه في حد الزنا لما فيها من حقوق الله تعالى الَّتِي لَا يَجُوزُ إِضَاعَتُهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ وَلَا يُحَدُّ الزَّانِي عَلَى مَا نص عليه في قطع

<<  <  ج: ص:  >  >>