للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

السلام تَوْبَتَهُ وَجَعَلَ لَهُ أَمَانًا مَنْشُورًا عَلَى مَا كَانَ أَصَابَ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، أَنَّهَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ جَمِيعَ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ إِلَّا الدِّمَاءَ لِتَغْلِيظِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا.

وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ لِاخْتِصَاصِ التَّوْبَةِ بِتَكْفِيرِ الْإِمَامِ دُونَ حُقُوقِ الْعِبَادِ.

(فَصْلٌ)

فَأَمَّا الْحُدُودُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي سُقُوطِهَا بِالتَّوْبَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِعُمُومِ الظَّوَاهِرِ فِيهَا وَلِأَنَّ تَوْبَةَ الْمُحَارِبِ أَبْلَغُ فِي خُلُوصِ الطَّاعَةِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْقُدْرَةِ فَقَوِيَ حُكْمُهَا فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ عَنْهُ وَتَوْبَةَ غَيْرِ الْمُحَارِبِ تَضْعُفُ عَنْ هذه الحال؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهَا عَنْ خَوْفٍ فَضَعُفَ حُكْمُهَا فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ عَنْهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَالْحِرَابَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزِّنَا: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء: ١٦] وفي قطع السَّرِقَةِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحيم} ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا) ، وَلِأَنَّ حُدُودَ الْحِرَابَةِ أَغْلَظُ مِنْ حُدُودِ غَيْرِ الْحِرَابَةِ، فَلَمَّا سَقَطَ بِالتَّوْبَةِ أَغْلَظُهُمَا كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ أَخَفُّهُمَا، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ مَوْضُوعَةٌ لِلنَّكَالِ وَالرَّدْعِ، وَالتَّائِبُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا فَسَقَطَ عَنْهُ مُوجِبُهَا.

(فَصْلٌ)

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلتَّوْبَةِ تَأْثِيرًا فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ فِي الْحِرَابَةِ وَغَيْرِ الْحِرَابَةِ فَالتَّوْبَةُ مُخْتَلِفَةٌ فِيهَا فتكون في الحرابة بإظهارها قولاً حتى يقترن بها الْكَفّ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا إِصْلَاحُ الْعَمَلِ، وَلَا تَكُونُ التَّوْبَةُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ بِإِظْهَارِهَا قَوْلًا حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا إِصْلَاحُ الْعَمَلِ فِي زَمَانٍ يُوثَقُ بِصَلَاحِهِ فِيهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وجهين:

أحدهما: نص.

والثاني: معنى.

فأما النَّصّ فَقَوْلُهُ فِي الْحِرَابَةِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: ٣٤] وَلَمْ يُشْتَرَطِ الْإِصْلَاحُ فِيهَا، وَقَالَ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: ٣٩] وَفِي آيَةِ الزِّنَا: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: ١٦] بشرط الإصلاح فيها.

<<  <  ج: ص:  >  >>