للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: ٩٨] يَعْنِي: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً بِالْخَلَاصِ مِنْ مَكَّةَ وَلَا يَجِدُونَ سَبِيلًا فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَيَكُونُ فِي التَّوْرِيَةِ عَنْ دِينِهِ بِإِظْهَارِ الْكُفْرِ وَاسْتِبْطَانِ الْإِسْلَامِ مُخَيَّرًا كَالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَبَوَيْهِ حِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ فَامْتَنَعَ أَبَوَاهُ مِنْ إِظْهَارِ الْكُفْرِ فَقُتِلَا، وَتَظَاهَرَ بِهِ عَمَّارٌ فَاسْتُبْقِيَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالِإيمان} [النحل: ١٠٦] الْآيَةَ فَعَلَى هَذَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

فَصْلٌ: فَأَمَّا الْهِجْرَةُ فِي زَمَانِنَا فَتَخْتَصُّ بِمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي الْهِجْرَةِ مِنْهَا إِلَى دَارِ إِسْلَامٍ، وَلَا تَخْتَصُّ بِدَارِ الْإِمَامِ

وَحَالُهُ يَنْقَسِمُ فِيهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالِاعْتِزَالِ وَيَقْدِرَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالْقِتَالِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِإِسْلَامِهِ وَاعْتِزَالِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ دُعَاءُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ نُصْرَتِهِ بِجِدَالٍ أَوْ قِتَالٍ

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالِاعْتِزَالِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالْقِتَالِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ وَلَا يُهَاجِرَ، لِأَنَّ دَارَهُ قَدْ صَارَتْ بِاعْتِزَالِهِ دَارَ إِسْلَامٍ، وَإِنْ هَاجَرَ عَنْهَا عَادَتْ دَارَ حَرْبٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّعَاءُ وَالْقِتَالُ لِعَجْزِهِ عَنْهَا

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى الِاعْتِزَالِ وَلَا عَلَى الدُّعَاءِ وَالْقِتَالِ، فَهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، لِأَنَّهُ لَمْ تَصِرْ دَارُهُ دَارَ إِسْلَامٍ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْجُوَ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ بِمَقَامِهِ، فَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يُقِيمَ وَلَا يُهَاجِرَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَرْجُوَ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ بِهِجْرَتِهِ فَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يُهَاجِرَ وَلَا يُقِيمَ وَالثَّالِثُ: أَنْ تَتَسَاوَى أَحْوَالُهُ فِي الْمَقَامِ وَالْهِجْرَةِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالْهِجْرَةِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَيَقْدِرَ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ وَهُوَ عَاصٍ إِنْ أَقَامَ، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ قِيلَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا تُرَاءَى نَارَاهُمَا وَمَعْنَاهُ: لَا يَتَّفِقُ رَأْيَاهُمَا، فَعَبَّرَ عَنِ الرَّأْيِ بالنار، لأن الإنسان يستضئ بالرأي كما يستضئ بالنار

<<  <  ج: ص:  >  >>