للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَذَهَب الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ إِلَى أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي الْجِهَادِ أَيْضًا كَرَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَتَيْنِ تَأْكِيدًا.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهَا فِي النُّورِ وَارِدَةٌ فِي الْمُؤَاكَلَةِ.

وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي الْمُرَادِ بِالْمُؤَاكَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ إِذَا دُعُوا إِلَى طَعَامٍ، لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ أَطْيَبَ الطَّعَامِ، وَالْأَعْرَجَ لَا يَسْتَطِيعُ الزِّحَامَ وَالْمَرِيضُ يَضْعُفُ عَنْ مُشَارَكَةِ الصَّحِيحِ فِي الطَّعَامِ، وَكَانُوا يَعْزِلُونَ طَعَامَهُمْ مُفْرَدًا، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ مُؤَاكَلَتِهِم، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنْ أَهَلِّ الزَّمَانَةِ يَخْلُفُونَ الْأَنْصَارَ فِي مَنَازِلِهِمْ إِذَا خَرَجُوا لِلْجِهَادِ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ مَنِ اسْتَخْلَفُوهُمْ فِيهَا وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ ذُكِرَ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانَةِ حَرَجٌ إِذَا دُعِيَ إِلَى طَعَامٍ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُ قَائِدَهُ، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الْكَرِيمِ.

(فَصْلٌ)

: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَفْسِيرُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْآيَاتِ فَأَوَّلُ الْمَذْكُورِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الْأَعْمَى، وَهُوَ الذَّاهِبُ الْبَصَرِ، فَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْبَصَرِ لِعِلَّةٍ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ يرى الأشخاص، وإن لم يعرف صورها وويمكنه أَنْ يَتَّقِيَ أَخْفَى السِّلَاحَ وَهُوَ السِّهَامُ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ فَرْضُهُ. فَأَمَّا الْأَعْوَرُ فَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ، لِأَنَّهُ يُدْرِكُ بِالْعَيْنِ الْبَاقِيَةِ مَا كَانَ يُدْرِكُهُ بِهِمَا.

وَكَذَلِكَ الْأَعْشَى الَّذِي يُبْصِرُ نَهَارًا وَلَا يُبْصِرُ لَيْلًا، وَالْأَحْوَلُ وَالْأَعْمَشُ يَتَوَجَّهُ فَرْضُ الْجِهَادِ إِلَى جَمِيعِهِمْ، وَهَكَذَا الْأَصَمُّ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ النَّظَرُ دُونَ السَّمْعِ.

وَرَوَى زَيْدُ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اكتب: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} الْآيَةَ. فَكَتَبْتُهَا فِي كَتِفٍ، فَقَالَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ - وَكَانَ أَعْمَى _: فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَستَطيعُ قَالَ: فَأَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّكِينَةُ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: اقْرَأْ يَا زَيْدُ مَا كَتَبْتَ فَقَرَأْتُ {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} النساء: ٩٥] فَقَالَ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: ٩٥] فَكَتَبْتُهَا.

وَالثَّانِي: من أهل الأعذار الأعرج، وفي المراد في من الْآيَةِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْمُقْعَدُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>