للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الدنيا} [الأنفال: ٦٧] يعني المال و {الله يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: ٦٧] ، يَعْنِي الْعَمَلَ بِمَا يُفْضِي إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَاوَرَ فِيهِمْ أَصْحَابَهُ، فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِاسْتِبْقَائِهِمْ، وَأَخْذِ فِدَائِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَأَشَارَ عُمَرُ بِقَتْلِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ، وَأَعْدَاءُ رَسُولِهِ، فَعَمِلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَفَادَى كُلَّ أَسِيرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا فَعَلَهُ مِنَ الْفِدَاءِ، وَقَالَ {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عظيم} [الأنفال: ٦٨] . وفيه تأويلان: أحدهما: {ولولا كتاب من الله سبق} أَنَّهُ سَيَحِلُّ الْمَغَانِمَ لَكُمْ {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من فداء الأسرى عذاب عظيم قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَالثَّانِي: " لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سبق " أَنْ لَا يُؤَاخِذَ أَحَدًا بِعَمَلٍ أَتَاهُ عَلَى جهالة {لمسكم فيما أخذتم} من الفداء {عذاب عظيم} قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ: وَإِذَا مَنَعَ مِنَ الفداء كالمنع مِنَ الْمَنِّ أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: ٤] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَرَبَ رِقَابَهُمْ صَبْرًا بَعْدَ الْقُدْرَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ قِتَالُهُمُ الْمُفْضِي إِلَى ضَرْبِ رِقَابِهِمْ فِي المعركة: {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق} يَعْنِي بِالْإِثْخَانِ الْجِرَاحَ، وَبِشَدِّ الْوَثَاقِ الْأَسْرَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ الْأَسْرِ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فداء} والمن والعفو، وَالْفِدَاءُ مَا فُودِيَ بِهِ الْأَسِيرُ، مِنْ مَالٍ أَوْ أَسِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أوزارها} فِيهِ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَوْزَارُ الْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ.

وَالثَّانِي: أَثْقَالُ السِّلَاحِ بِالظَّفَرِ فَوَرَدَ بِإِبَاحَةِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ نَصُّ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ، ثُمَّ جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ بَعْدَ أَنْ رَبَطَهُ إِلَى سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ أَسْرًا، فَمَضَى وَأَسْلَمَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَمَنَّ عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ يَوْمَ بَدْرٍ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعُودَ لِقِتَالِهِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَكَّةَ قَالَ: سَخِرْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَعَادَ إلى قتاله في أحد فدعى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ لَا يُفْلِتَ فَمَا أُسِرَ يَوْمَئِذٍ غَيْرُهُ، فَقَالَ: امْنُنْ عَلَيَّ فَقَالَ: " هَيْهَاتَ، تَرْجِعُ إِلَى قَوْمِكَ فَتَقُولُ سَخِرْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَينِ " وَضَرَبَ عُنُقَهُ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى طَرِيقِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّحْذِيرِ.

وَيَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الْفِدَاءِ بِالْأَسْرَى، مَا رَوَاهُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَادَى يَوْمَ بَدْرٍ رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ، وَعَلَى الْفِدَاءِ بِالْمَالِ مَا فَادَى بِهِ أَسْرَى بَدْرٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>