للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْبَابُ أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَيْسَ مِنَ الْفِقْهِ، لِيُوَضِّحَ بِهِ صِدْقَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَعْدِهِ، وَصِدْقَ رَسُولِهِ فِي خَبَرِهِ، لِيَرُدَّ بِهِ عَلَى مَنِ ارْتَابَ بِهِمَا، فَصَارَ تَالِيًا لِلسِّيَرِ.

فَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: ٣٣] . أما قوله {بالهدى ودين الحق} فَفِيهِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْهُدَى هُوَ دِينُ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِتَغَايُرِ لَفْظَيْهِمَا، لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَفْسِيرًا لِلْآخَرِ.

وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى إِلَى دِينِ الْحَقِّ، لِأَنَّ الرَّسُولَ هَادٍ، وَالْقُرْآنَ هِدَايَةٌ، وَالْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ دِينُ الْحَقِّ.

وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْهُدَى هُوَ الدَّلِيلُ، وَدِينَ الْحَقِّ هُوَ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: ٣٣] . فَقَدْ دَفَعَهُ الْمُتَشَكِّكُونَ فِي أَدْيَانِهِمْ، وَقَالُوا: قَدْ بَقِيَتْ أَطْرَافُ الْأَرْضِ مِنَ الرُّومِ، وَالتُّرْكِ، وَالْهِنْدِ، وَالزِّنْجِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْقَاصِيَةِ، مَا أَظْهَرَ دِينَهُ عَلَى أَدْيَانِهِمْ، فَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمَوْعِدُ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْقَدْحِ أَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَاءِ الْكِنَايَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كله} إِلَى مَاذَا تَعُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ تَعُودَ إِلَى الْهُدَى.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى دِينِ الْحَقِّ وَحْدَهُ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَيْهِمَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ.

فَأَمَّا الْهُدَى فَفِي مَعْنَى إِظْهَارِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِظْهَارُ دَلَائِلِهِ، وَحُجَجِهِ، وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ فِعْلَ ذَلِكَ فَإِنَّ حُجَجَ الْإِسْلَامِ أَظْهَرُ وَدَلَائِلَهُ أَقْهَرُ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِظْهَارُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مَا حَارَبَ قَوْمًا إِلَّا انْتَصَفَ مِنْهُمْ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَقَاءُ إِعْجَازِهِ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، فَإِنَّ مُعْجَزَ الْقُرْآنِ بَاقِ عَلَى مُرُورِ الْأَعْصَارِ، وَمُعْجَزَ مُوسَى فَلْقُ الْبَحْرِ، وَعِيسَى فِي إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، مُنْقَطِعٌ لَمْ يَبْقَ.

وَأَمَّا الدِّينُ، فَفِي إِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

<<  <  ج: ص:  >  >>