للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَنِبَهُمْ كَالْأَنْجَاسِ صَارُوا بِالِاجْتِنَابِ فِي حُكْمِ الْأَنْجَاسِ، وَهَذَا قول جمهور أهل العلم. وقوله: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: ٢٨] . يُرِيدُ بِهِ الْحَرَمَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَسْجِدِ، لِحُلُولِهِ فِيهِ، كَمَا قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: ٧١] . يُرِيدُ بِهِ مَكَّةَ، لِأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ مَنْزِلِ أُمِّ هَانِئٍ وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ اللَّهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: ١٤٤] . يُرِيدُ بِهِ الْكَعْبَةَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَدْ مَنَعَ أَنْ يَقْرَبَهُ مُشْرِكٌ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي الدُّخُولِ وَالِاسْتِيطَانِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} ^ [البقرة: ١٢٦] يَعْنِي مَكَّةَ، وَحَرَمَهَا، {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا} ^ [البقرة: ١٢٦] . يَعْنِي بِمَكَّةَ، وَهُوَ قَبْلَ فَتْحِهَا، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهَا عَلَى الْكَافِرِ بَعْدَ فَتْحِهَا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ " وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْقَصْدِ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اخْتُصَّ الْحَرَمُ بِمَا شَرَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُصَانَ مِمَّنْ عَانَدَهُ، وَطَاعَنَهُ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا ذَكَرَ فَضَائِلَ الْأَعْمَالِ فِي الْبِقَاعِ، فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ:

صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا

. وَهَذَا التَّفْضِيلُ يُوجِبُ فَضْلَ الْعِبَادَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مَوْهَبٍ النَّصْرَانِيِّ بِمَكَّةَ، فَهُوَ أَنَّهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّها نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، فَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ أَعْظَمُ، لِتَقَدُّمِ تَحْرِيمِهِ، وَلِوُجُوبِ الْإِحْرَامِ فِي دُخُولِهِ، وَلِلْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ صَيْدِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمُسْلِمِ الْجُنُبِ، فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعِ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ مِنْ الِاسْتِيطَانِ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الدُّخُولِ وَالْمُشْرِكُ مَمْنُوعٌ مِنْ الِاسْتِيطَانِ، فَمُنِعَ مِنَ الدُّخُولِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ مُشْرِكٌ، وَوَرَدَ الْمُشْرِكُ رَسُولًا إِلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ فِي الْحَرَمِ، خَرَجَ الْإِمَامُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ، فَلَوْ دَخَلَ مُشْرِكٌ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُقْتَلْ، وَعُزِّرَ إِنْ عَلِمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَلَمْ يُعَزَّرْ إِنْ جَهِلَ، وَأُخْرِجَ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْحَرَمِ لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ، فَلَوْ دُفِنَ فِيهِ نُبِشَ، وَنُقِلَ إِلَى الْحِلِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ، فَيُتْرَكَ كَسَائِرِ الْأَمْوَاتِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>