للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِذَا ثَبَتَ حَظْرُ اسْتِيطَانِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلْحِجَازِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلُوهُ دُخُولَ الْمُسَافِرِينَ لَا يُقِيمُوا مِنْ مَوْضِعٍ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ حِينَ أَجْلَاهُمْ ضَرَبَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا أَوْ صَانِعًا مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْحَظْرِ، اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

لا يجتمع دينان في جزيرة العرب

محمول عَلَى الِاسْتِيطَانِ دُونَ الِاجْتِيَازِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: ٦] وَيَكْفِيهِ أَنْ يَهْتَدِيَ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُدَّةِ ثَلَاثٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْخَفَضَتْ حُرْمَةُ الْحِجَازِ عَنِ الْحَرَمِ، وَفُضِّلَتْ عَلَى غَيْرِهِ أُبِيحَ لَهُمْ مِنْ مُقَامِ مَا لَمْ يَسْتَبِيحُوهُ فِي الْحَرَمِ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنِ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ مَا اسْتَبَاحُوهُ فِي غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اخْتُصَّتِ الْإِبَاحَةُ بِمُقَامِ الْمُسَافِرِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَتَجَاوَزُونَهَا، وَيُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ الْحِجَازِ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ التَّصَرُّفُ دُونَ الْأَمَانِ.

فَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلُوا بِإِذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَذِنَ لِحَرْبِيٍّ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِإِذْنِهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِإِذْنِهِ لِلْحَرْبِيِّ أَمَانُهُ، وَأَمَانُ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَجُوزُ، وَالْمَقْصُودَ بِإِذْنِهِ لِلذِّمِّيِّ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ التَّصَرُّفُ الْمَقْصُورُ عَلَى إِذْنِ الْإِمَامِ فَلَوْ دَخَلَ ذِمِّيٌّ الْحِجَازَ بِغَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ وَأُخْرِجَ وَلَا يُغْنَمُ مَالُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ بِالذِّمَّةِ أَمَانًا وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ إِذْنٍ غُنِمَ مَالُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُ، وَيَجُوزُ إِذَا أَقَامُوا بِبَلَدٍ مِنَ الْحِجَازِ ثَلَاثًا أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى غَيْرِهِ، فَيُقِيمُوا فِيهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي بَلَدٍ بَعْدَ بَلَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ فِي الثَّلَاثِ، وَاحْتَاجَ إِلَى زِيَادَةِ مَقَامٍ؛ لِاقْتِضَاءِ الدُّيُونِ مُنِحَ، وَقِيلَ لَهُ: وَكِّلْ مَنْ يَقْبِضُهَا لَكَ، وَلَوْ مَرِضَ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ مُكِّنَ مِنَ الْمُقَامِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ حَتَّى يَبْرَأَ، فَيَخْرُجَ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى قَبْضِهِ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْحِجَازِ لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّفْنَ مَقَامُ تَأْبِيدٍ إِلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ إِخْرَاجُهُ، وَيَتَغَيَّرَ إِنِ اسْتُبْقَى مِنْ غَيْرِ دَفْنٍ فَيُدْفَنُ فِي الْحِجَازِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا يُقِيمُ فِيهِ مَرِيضًا.

فَأَمَّا الْحِجَازُ، فَهُوَ بَعْضُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَوْلٍ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُتَوَجِّهٌ إِلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَهِيَ فِي قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ إِلَى أَقْصَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَمِنْ جَدَّةَ وَمَا وَالَاهَا إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ فِي الْعَرْضِ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ فِي الطُّولِ مَا بَيْنَ حَفْرِ أَبِي مُوسَى إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ، وَفِي الْعَرْضِ مَا بَيْنَ رَمْلَ إِلَى يَبْرِينَ إِلَى مُنْقَطَعِ السَّمَاوَةِ، وَفِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَرْضُ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ، وَحَدُّ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: إِذَا خَلَّفْتَ عَجَازَ مُصْعِدًا، فَقَدْ أَنْجَدْتَ، فَلَا تَزَالُ مُنْجِدًا حَتَّى تَنْحَدِرَ فِي ثَنَايَا ذَاتِ عِرْقٍ، فَإِذَا فَعَلْتَ فَقَدْ أَتْهَمْتَ، وَلَا تَزَالُ مُتْهِمًا فِي ثَنَايَا الْعَرْجِ حَتَّى يَسْتَقْبِلَكَ الْأَرَاكُ وَالْمَدَارِجُ

<<  <  ج: ص:  >  >>