للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّ الْعَقْرَ مِنْ جَمِيعِ الْمُذَكَّى مُعْتَبَرٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِهِ فِي بَعْضِهِ وَإِسْقَاطِهِ فِي بَعْضِهِ وَقَدِ اعْتَبَرْتُمُ الْعَقْرَ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَأَسْقَطْتُمُوهُ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ.

وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} (المائدة: ١) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ أَجِنَّتُهَا إِذَا وُجِدَتْ مَيْتَةً فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا يَحِلُّ أَكْلُهَا بِذَكَاةِ الْأُمَّهَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَوَّلِ أَحْكَامِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ، وَالْغَالِبُ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ هَذَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوهُ إِلَّا نَقْلًا.

وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَرِوَايَةُ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ ".

فَجَعَلَ إِحْدَى الذَّكَاتَيْنِ نَائِبَةً عَنْهُمَا، أَوْ قَائِمَةً مَقَامَهُمَا، كَمَا يُقَالُ: مَالُ زَيْدٍ مَالِي، وَمَالِي مَالُ زَيْدٍ. يُرِيدُ أَنَّ أَحَدَ الْمَالَيْنِ يَنُوبُ عَنِ الْآخَرِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ دُونَ النِّيَابَةِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: ذَكَاةُ الْجَنِينِ كذكاة أمه، لأن قَدَّمَ الْجَنِينَ عَلَى الْأُمِّ، فَصَارَ تَشْبِيهًا بِالْأُمِّ، وَلَوْ أَرَادَ النِّيَابَةَ لَقَدَّمَ الْأُمَّ عَلَى الْجَنِينِ فَقَالَ: ذَكَاةُ الْأُمِّ ذَكَاةُ جَنِينِهَا - فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ اسْمَ الْجَنِينِ مُنْطَلِقٌ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ مُسْتَجَنًّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَيَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ إِذَا انْفَصَلَ عَنْهَا، فَيُسَمَّى وَلَدًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) {النجم: ٣٢) . وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ لَا يُقْدَرُ عَلَى ذَكَاتِهِ، فَبَطَلَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّشْبِيهِ، وَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى النِّيَابَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّشْبِيهَ دُونَ النِّيَابَةِ، لَسَاوَى الْأُمَّ غَيْرُهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْأُمِّ فَائِدَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النِّيَابَةِ دُونَ التَّشْبِيهِ، لِيَصِيرَ لِتَخْصِيصِ الْأُمِّ تَأْثِيرٌ.

وَالثَّالِثُ: لَوْ أَرَادَ التَّشْبِيهَ لَنَصَبَ ذَكَاةُ أُمِّهِ لَحَذْفِ كَافِ التَّشْبِيهِ، وَالرِّوَايَةُ مَرْفُوعَةٌ: " ذَكَاةُ أُمِّهِ " فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ النِّيَابَةَ دُونَ التَّشْبِيهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ بِالنَّصْبِ: " ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةَ أُمِّهِ ".

- قِيلَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَلَوْ سَلِمَتْ لَكَانَتْ مَحْمُولَةً على نصبها بحذف " ياء " النِّيَابَةِ دُونَ كَافِ التَّشْبِيهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلِأَنَّه إِثْبَاتُ الذَّكَاةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَفْيِهَا، لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ، وَلَا نَفْعَلُ النَّفْيَ مِنَ الْإِثْبَاتِ كَمَا لَا نَفْعَلُ الْإِثْبَاتَ مِنَ النَّفْيِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: ذَكَاةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، وَلَوِ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ لَكَانَتَا مُسْتَعْمَلَتَيْنِ، فَتُسْتَعْمَلُ الرِّوَايَةُ الْمَرْفُوعَةُ عَلَى النِّيَابَةِ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا، وَتُسْتَعْمَلُ الرِّوَايَةُ الْمَنْصُوبَةُ عَلَى التَّشْبِيهِ إِذَا خَرَجَ حَيًّا، فَيَكُونُ أَوْلَى مِمَّنِ اسْتَعْمَلَ إِحْدَاهُمَا، وَأَسْقَطَ الْأُخْرَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>