للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ القطان عن مجالد عن أبي الوداني عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَنْحَرُ النَّاقَةَ، وَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ أَوِ الشَّاةَ فِي بَطْنِهَا جنينٌ ميتٌ أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ؟ فَقَالَ: " كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ، فَإِنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ "؛ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. رَوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُونَ: " ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ "، وَمَا انْعَقَدَ بِهِ إِجْمَاعُهُمْ لَمْ يَجُزْ فِيهِ خِلَافُهُمْ.

وَمِنَ الِاعْتِبَارِ هُوَ أَنَّ الْجَنِينَ يَغْتَذِي بِغِذَاءِ أُمِّهِ، فَلَمَّا كَانَتْ حَيَاتُهُ بِحَيَاتِهَا جَازَ أَنْ تَكُونَ ذَكَاتُهُ بِذَكَاتِهَا كَالْأَعْضَاءِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَأَعْضَاؤُهَا لَا تُعْتَبَرُ ذَكَاتُهَا بَعْدَهَا، وَأَنْتُمْ تَعْتَبِرُونَ ذَكَاةَ الْجَنِينِ إِذَا خَرَجَ حَيًّا، فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا.

قِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّنَا جَعَلْنَا ذَكَاتَهُ بِذَكَاتِهَا، إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ، بِخُرُوجِ رُوحِهَا، وَإِذَا خَرَجَ حَيًّا لَمْ تَخْرُجْ رُوحُهُ بِخُرُوجِ رُوحِهَا، فَلَمْ تَحِلَّ بِذَكَاتِهَا كَذَلِكَ الْأَعْضَاءُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْهَا الرُّوحُ بِخَرُوجِ رُوحِهَا حَلَّتْ، وَلَوْ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْهَا بِغَيْرِ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْ أَصْلِهَا لِقَطْعِهَا قَبْلَ ذَبْحِهَا لَمْ تُؤْكَلْ، فَاسْتَوَيَا، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ الْمُعَلَّلِ قِيَاسٌ ثَانٍ، فَيُقَالُ: حَيَوَانٌ خَرَجَتْ رُوحُهُ بِذَكَاةٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَأْكُولًا، كَالْأُمِّ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنِينُ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ، وَحِمَارٍ أَهْلِيٍّ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، لِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمِّ، وَالْأُمُّ تُؤْكَلُ إِذَا لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْ بَيْنِ جنسين كذلك الجنين.

فإن قيل: إنا مَاتَ بِاخْتِنَاقِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَاحْتِبَاسِ نَفْسِهِ، لَا بِالذَّكَاةِ فَدَخَلَ فِي تَحْرِيمِ الْمُنْخَنِقَةِ.

قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ أَحْكَامُ الْمَحْظُورَاتِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَحْظُورَةِ أَحْكَامُ الْمُبَاحَاتِ وَمَوْتُ الْجَنِينِ بِذَبْحِ أُمِّهِ مُبَاحٌ، يَتَعَلَّقُ بِهِ إِحْلَالُ الْأُمِّ، فَتَبِعَهَا فِي الْحُكْمِ، وَالْمُنْخَنِقَةُ ضِدُّهَا؟ لِتَحْرِيمِ جَمِيعِهَا، فَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا.

وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَّرْنَاهُ أَنَّ الذَّكَاةَ مُعْتَبِرَةٌ بِالْقُدْرَةِ بَعْدَ الْأَسْبَابِ المباحة، وهي تنقسم ثلاثة أقسام.

فقسم يُمْكِنُ ذَبْحُهُ، وَهُوَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّيْدِ وَالنَّعَمِ، فَلَا ذَكَاةَ لَهُ إِلَّا فِي حَلْقِهِ ولبته.

<<  <  ج: ص:  >  >>