للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: " إِلَّا بِإِذْنِي " اسْتِثْنَاءٌ يُوجِبُ خُرُوجَ الْمُسْتَثْنَى، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ، وَبِرُّهُ بِأَنْ يَكُونَ لَا تَخْرُجُ، وَحِنْثُهُ يَكُونُ بِأَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، لِيَكُونَ بَارًّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَحَانِثًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ بِهِ، وَلَا يَكُونُ بَارًّا مِنْ وَجْهَيْنِ: وَحَانِثًا مِنْ وَجْهٍ، كَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَ بِكَلَامِهَا لزيد حانثاً ويترك كَلَامِهِ بَارًّا، وَبِكَلَامِهَا لِغَيْرِهِ غَيْرَ بَارٍّ، وَلَا حَانِثٍ، وَهَذِهِ أَشْبَهُ بِطَرِيقَةِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ، وَهِيَ فَاسِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إنَّ يَمِينَهُ تَضَمَّنَتْ مَنْعًا، وَتَمْكِينًا، فَالْمَنْعُ خُرُوجُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَالتَّمْكِينُ خُرُوجُهَا بِإِذْنٍ.

فَلَمَّا حَنِثَ بِالْجَمْعِ وَجَبَ أَنْ يَبَرَّ بِالتَّمْكِينِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ تَضَمَّنَتْهُ الْيَمِينُ، وَخَالَفَ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ مِنْ يَمِينِهِ عَلَى كَلَامِهَا لِزَيْدٍ، لِأَنَّ كَلَامَهَا لِغَيْرِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي يَمِينِهِ مِنْ مَنْعٍ وَلَا تَمْكِينٍ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ.

وَالثَّانِي: إنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ يَتَعَلَّقَانِ فِي الْأَيْمَانِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى إِثْبَاتٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ، كَانَ بِرُّهُ بِدُخُولِهَا، وَحِنْثُهُ بِأَنْ لَا يَدْخُلَهَا. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْيٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ الدَّارَ كَانَ بِرُّهُ بِأَنْ لَا يُدْخِلَهَا. وَحِنْثُهُ بِأَنْ يَدْخُلَهَا.

فَلَمَّا كَانَ حِنْثُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، يَكُونُ بِخُرُوجِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِرُّهُ بِخُرُوجِهَا بِإِذْنِهِ، فَنُثْبِتُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَسَادَ هَذِهِ الطَّرِيقَة.

وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لَهُمْ أَنْ يُسَلِّمُوا وُقُوعَ الْبِرِّ بِالْخُرُوجِ بِإِذْنٍ كَمَا أَنَّ وُقُوعَ الْحِنْثِ بِالْخُرُوجِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَيَسْتَدِلُّوا عَلَى وُجُوبِ تَكْرَارِ الْبِرِّ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرَ الْحِنْثُ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِنَّمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ إِلَّا رَاكِبَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَنَّ الْبِرَّ يَتَكَرَّرُ، وَالْحِنْثَ لَا يَتَكَرَّرُ، وَيَلْزَمُهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ رَاكِبَةً، وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً غَيْرَ رَاكِبَةٍ حَنِثَ وَسَقَطَتِ الْيَمِينُ وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً رَاكِبَةً بَرَّ وَلَمْ تخل الْيَمِينُ، وَلَزِمَهَا الْخُرُوجُ بَعْدَ هَذَا الْبِرِّ رَاكِبَةً أَبَدًا. كَذَلِكَ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَخَرَجَتْ مَرَّةً بِإِذْنِهِ، لَمْ تخل الْيَمِينُ، وَلَزِمَهَا أَنْ تَخْرُجَ كُلَّ مَرَّةٍ بِإِذْنِهِ.

وَلَوْ خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ حَنِثَ، وَسَقَطَتِ الْيَمِينُ، فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ فِي اشْتِرَاطِ الرُّكُوبِ دَلِيلًا عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْإِذْنِ، إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فَرْقٌ فِي الْحُكْمِ.

والثاني: أنه لما كان البر يترك الْخُرُوجَ مُؤَبَّدًا، وَالْحِنْثُ بِالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ مُقَيَّدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبِرُّ بِالْخُرُوجِ بِالْإِذْنِ مُتَكَرِّرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحِنْثُ بِالْخُرُوجِ بِغَيْرِ إذن متكرراً.

<<  <  ج: ص:  >  >>