للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي نُهِيَتْ عَنْهُ، وَلِأَنَّ كَلَامَهُ مُخْتَصٌّ بِجَارِحَةِ لِسَانِهِ، وَكَلَامِ الرَّسُولِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ، وَالْكِتَابِ مِنْ أَفْعَالِ يَدِهِ، فَصَارَ كَلَامُهُ مُخَالِفًا لِرِسَالَتِهِ، وَكِتَابُهُ مُخْرِجًا عَنْ حُكْمِ كَلَامِهِ، وَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَسَامِي دُونَ الْمَعَانِي وَالْأَسْمَاءُ في ذلك مختلفة فوجب أن يكون فِي أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ مُخْتَلِفَةً، وَإِنِ اسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِمَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ الْهِجْرَةَ مُحَرَّمَةٌ فَوْقَ ثَلَاثٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثلاثٍ. وَالسَّابِقُ أَسْبَقُهُمَا إِلَى الْجَنَّةِ ".

قَالَ: فَلَوْ كَتَبَ أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى كَلَامِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ هَذَا مِنَ الْهِجْرَةِ الَّتِي أَثِمَ بِهَا.

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي إسحاق المروزي إنه عَلَى ظَاهِرِهِ، أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ عَنْ مَأْثَمِ الْهِجْرَةِ، فَيَكُونُ دَلِيلًا فِي الْمَسْأَلَةِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مَأْثَمِ الْهِجْرَةِ كَالْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْكَلَامِ فِي الْهِجْرَةِ نَفْيُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْوَحْشَةِ، وَعَوْدُهُمَا إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الْأُنْسَةِ، فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي الْهِجْرَةِ اعتباراً بمعنى وَلَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي الْيَمِينِ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَمْلِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْأَسَامِي، وَحَمْلِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْمَعَانِي.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْنِ، فَهُوَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ بِمَعْنَى لَكِنْ، فَجَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَى غَيْرِ جِنْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالُكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) {النساء: ٢٩. مَعْنَاهُ: لَكِنْ كُلُوهُ بِتِجَارَةٍ.

فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الِانْفِصَالُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَسَامِي دُونَ الْمَعَانِي.

(فَصْلٌ:)

فَإِنْ كَلَّمَ غَيْرَهُ بِكَلَامٍ يَسْمَعُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُ فَإِنْ كَانَ مُوَاجِهًا بِالْكَلَامِ حَنِثَ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُكَلِّمًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَاجِهٍ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ، رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا أَرَادَتِ الْخُرُوجَ إِلَى الْبَصْرَةِ أَشَارَتْ عَلَيْهَا أُمُّ سَلَمَةَ أَنْ لَا تَفْعَلَ، وَحَلَفَتْ عَلَيْهَا إِنْ خَرَجَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَهَا، فَلَمَّا خَرَجَتْ وَعَادَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُعَرِّضَةً بِهَا: يَا حَائِطُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: يَا حَائِطُ؟ أَلَمْ أَنْهَكَ؟ فَبَلَّغَتْ غَرَضَهَا، وَسَلِمَتْ مِنَ الْحِنْثِ. والله أعلم.

[(مسألة:)]

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرَى كَذَا إِلَّا رَفَعَهُ إِلَى قاضٍ فَرَآهُ فَلَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُهُ إِلَيْهِ حَتَى مَاتَ ذَلِكَ الْقَاضِي لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُمْكِنَهُ فَيُفَرِّطُ وَإِنْ عزل فإن

<<  <  ج: ص:  >  >>