للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ وُصُولَ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ، فَيَكُونُ بَارًّا.

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ بَعْضَهَا لَمْ يَصِلْ إِلَى بَدَنِهِ، فَلَا يَكُونُ بَارًّا.

وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَشُكَّ هَلْ وَصَلَ جميعها أو لم يصل، فمذهب الشافي إنَّهُ يَكُونُ بَارًّا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ وُقُوعِهَا علىالبدن أَنَّهُ لَمْ يَحُلْ عَنْهُ حَائِلٌ، فَحُمِلَ عَلَى الْبِرِّ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِالشَّكِّ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ: لَا يَبِرُّ بِشَكِّهِ فِي الْبِرِّ.

وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا الْوَقْتَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فُلَانٌ، فَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ أَوْ غَابَ، حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ حَنِثَ، فَلَمْ يَجْعَلْهُ بِالشَّكِّ فِي الْمَشِيئَةِ بَارًّا فَكَيْفَ جَعَلَهُ بِالشَّكِّ فِي وُصُولِ الضَّرْبِ بَارًّا؟ .

وَالْجَوَابُ عَنْهُ إنَّهُ جَعَلَ الْمَشِيئَةَ شَرْطًا فِي حِلِّ الْيَمِينِ، وَقَدِ انْعَقَدَتْ فَلَمْ تُخِلَّ بِالشَّكِّ مَعَ عَدَمِ الظَّاهِرِ فِيهِ، وَجَعَلَ وَصُولَ الضَّرْبِ شَرْطًا فِي الْبِرِّ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِالشَّكِّ؛ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ:)

فأما الضرب الثَّالِثُ فِي وُصُولِ الْأَلَمِ إِلَى بَدَنِهِ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْبَرِّ، وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَأْلَمْ بِهِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: وُصُولُ الْأَلَمِ شرط في البر، فن لَمْ يَأْلَمْ بِهِ حَنِثَ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إنَّ مَقْصُودَ الضَّرْبِ بِتَأْثِيرِهِ، وَمَا لَا أَلَمَ فِيهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ.

وَالثَّانِي: إنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَلَمُ فِي ضَرْبِ الْحُدُودِ شَرْطًا فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَيْمَانِ شَرْطًا فِيهَا حَمْلًا لِإِطْلَاقِهَا عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ.

وَدَلِيلُنَا أَمْرَانِ: احتجاجاً، وَانْفِصَالًا:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمع لضرب المقعد عتكالاً، لِيَدْفَعَ عَنْهُ الْأَلَمَ، وَيَسْتَقِرَّ بِهِ الْحُكْمُ.

وَالثَّانِي: إنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَسَامِي دُونَ الْمَعَانِي، فَجَازَ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ الضَّرْبِ دُونَ الْأَلَمِ بِحُصُولِ الِاسْمِ، وَالْحُدُودُ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْمَاءِ وَالْمَعَانِي، فَجَازَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالِاسْمِ مَقْصُودُهُ مِنَ الْأَلَمِ.

فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ لِبَاسٌ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الضَّرْبِ إِلَى بَشَرَةِ بَدَنِهِ اعْتُبِرَ حاله، فإن كَانَ كَثِيفًا يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ، وَيَمْنَعُ مِنَ الْإِحْسَاسِ، بِالضَّرْبِ لَمْ يَبِرَّ، وَإِنْ كَانَ مَأْلُوفًا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِحْسَاسِ بِالضَّرْبِ بَرَّ وَإِنْ لَمْ يَأْلَمْ، وَاللَّهُ أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>