للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(حَضَرُوا وَغِبْنَا عَنْهُمُ فَتَحَكَّمُوا ... فِينَا وَلَيْسَ كَغَائِبٍ مَنْ يَشْهَدُ)

قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى غَيْرِ مَأْيُوسٍ مِنْ إِقْرَارِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ قَبْلَ إِنْكَارِهِ كَالْحَاضِرِ.

قَالُوا: وَلِأَنَّ فصل الحكم قد يكون بينة الْمُدَّعِي تَارَةً، وَبِيَمِينِ الْمُنْكِرِ أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فَصْلُ الْحُكْمِ بِيَمِينِ الْمُنْكِرِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُدَّعِي، لَمْ يَجُزْ فَصْلُهُ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي مَعَ غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهَا حُجَّةُ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ كَالْيَمِينِ.

قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يَكُونُ لِلْغَائِبِ تَارَةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ لِلْغَائِبِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ.

وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ لَهُ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ كَالْحَاضِرِ.

وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: ٢٦] وَمَا شَهِدْتَهُ بِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْغَائِبِ حَقٌّ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ.

وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: " كَانَ إِذَا حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خصمان فتواعدا مَوْعِدًا فَوَفَّى أَحَدَهُمَا وَلَمْ يَفِ الْآخَرِ قَضَى لِلَّذِي وَفَّى عَلَى الَّذِي لَمْ يَفِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقْضِي لَهُ بِدَعْوَاهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ قَضَى لَهُ بِالْبَيِّنَةِ.

وَرُوِيَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ زَوْجَةَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ سِرًّا فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ حَرَجٍ فَقَالَ لَهَا: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " وَهَذَا قَضَاءٌ منه على غائب لأن أبي سُفْيَانَ لَمْ يَحْضُرْ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مِنْهُ فُتْيَا وَلَيْسَ بِحُكْمٍ، قِيلَ بَلْ هُوَ حُكْمٌ لِأَنَّهُ قَالَ لَهَا: " خُذِي " وَلَوْ كَانَ فُتْيَا، لَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَأْخُذِي فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ.

قِيلَ: قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي سُفْيَانَ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيِّنَةٍ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ حُكْمٌ بِمَجْهُولٍ، لِأَنَّهُ قَالَ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف وقيل: لأن الواجب لها ولولدها معتبر بالكافية، وَالْحُكْمُ بِالْوَاجِبِ غَيْرُ مَجْهُولٍ.

وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ إِجْمَاعٌ:

رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: أَلَا إِنَّ أُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ قَدْ سَبَقَ الْحَاجَّ فَأَدَانَ مَعْرِضًا فَأَصْبَحَ قَدْ دِينَ بِهِ فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَحْضُرْ غَدًا لِنَقْسِمَ مَالَهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ وَلَيْسَ لَهُ مَعَ انْتِشَارِ قَوْلِهِ فِي النَّاسِ مُخَالِفٌ فكان إجماعا.

<<  <  ج: ص:  >  >>