للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْبَصَرِ فِي الْإِدْرَاكِ، وَضَمَّ الْفُؤَادَ إِلَيْهَا فِي الْإِثْبَاتِ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِهَا فِيمَا أُدْرِكَ إِثْبَاتُهُ بِهَا، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ بِبَعْضِهَا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ ظَنًّا فِي مَحَلِّ الْيَقِينِ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْبَصِيرِ فِي الظُّلْمَةِ، وَمِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ أَثْبَتُ مِنْ شَهَادَةِ الْأَعْمَى، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَخَيَّلُ مِنَ الْأَشْخَاصِ بِبَصَرِهِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْأَعْمَى، ثُمَّ لَمْ تَمْضِ شَهَادَةُ الْبَصِيرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَمْضِيَ شَهَادَةُ الْأَعْمَى الْمُقَصِّرِ عَنْ هَذِهِ الْحَالِ.

وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْعَقْدِ إِذَا عَرِيَتْ عَنْ رُؤْيَةِ الْعَاقِدِ لَمْ تَصِحَّ كَالشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ تَصَحَّ مِنْهُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَفْعَالِ لَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعُقُودِ كَالْأَخْرَسِ طَرْدًا وَالْبَصِيرِ عَكْسًا.

وَلِأَنَّ الصَّوْتَ يَدُلُّ عَلَى الْمُصَوِّتِ كَمَا يَدُلُّ اللَّمْسُ عَلَى الْمَلْمُوسِ، فَلَمَّا امْتَنَعَتِ الشَّهَادَةُ بِاللَّمْسِ لِاشْتِبَاهِ الْمَلْمُوسِ امْتَنَعَتْ بِالصَّوْتِ لِاشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ.

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِعُمُومِ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِأَدِلَّتِنَا.

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعْ مِنَ النُّبُوَّةِ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الشَّهَادَةِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَمَى شُعَيْبٍ، فَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَاعْتَرَفَ آخَرُونَ بِحُدُوثِهِ بَعْدَ الرِّسَالَةِ وَسَلَّمَ آخَرُونَ وَجَوَّدَهُ قَبْلَ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِعْجَازَ النُّبُوَّةِ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِصِحَّةِ شَهَادَتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ.

وَالثَّانِي: إِنَّ فِي النُّبُوَّةِ شَهَادَةً عَلَى مَغِيبٍ فَاسْتَوَى فِيهَا الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، فَخَالَفَ مَنْ عَدَاهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مُشَاهَدٍ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الْأَنْسَابِ وَالْعُقُودِ، فَهُوَ أَنَّ الْأَنْسَابَ لَا تُعْلَمُ قَطْعًا، فَجَازَ أَنْ تُعْلَمَ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَالْعُقُودُ يُمْكِنُ أَنْ تُعْلَمَ قَطْعًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُعْلَمَ بِالِاسْتِدْلَالِ كَالْأَفْعَالِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا أُدْرِكَ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ غَيْرُهَا، فَهُوَ أَنَّ مَا أُدْرِكَ بِأَحَدِهِمَا كَانَ هَذَا حُكْمَهُ، وَمَا أُدْرِكَ بِالْحَاسَّتَيْنِ اعْتَبَرْنَاهُمَا فِيهِ، وَالْعُقُودُ تُدْرَكُ بِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَا فِيهَا.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الصُّورَ تَخْتَلِفُ كَالْأَصْوَاتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِنَّ الصُّورَ تَشْتَبِهُ فِي المبادىء ثُمَّ تَتَحَقَّقُ فِي الْغَايَاتِ، وَالْأَصْوَاتُ تَشْتَبِهُ فِي المبادىء وَالْغَايَاتِ.

وَالثَّانِي: إِنَّ الْمُصَوِّتَ قَدْ يَحْكِي صَوْتَ غَيْرِهِ فَيُشْتَبَهُ، وَفِي الصُّورِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْكِيَ صُورَةَ غَيْرِهِ فَلَمْ يُشْتَبَهْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>