للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ الْكَذِبَ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى عِبَادِهِ، ثُمَّ كَانَتْ شَهَادَةٌ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَرْدُودَةً، وَالْكَافِرُ الْكَاذِبُ عَلَى اللَّهِ أَوْلَى أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَقَدْ وصف الله تعالى كذبهم فقال: {لا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: ٥] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: ٣] .

وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ:

أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَنْ كَانَ مَوْسُومًا بِالْكَذِبِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ كَالْمُسْلِمِ.

وَالثَّانِي: إِنَّ الْكَذِبَ إِذَا رُدَّتْ بِهِ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ، فَأَوْلَى أَنْ تُرَدَّ بِهِ شَهَادَةُ الْكَافِرِ، كَالْكَذِبِ عَلَى النَّاسِ، وَلِأَنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ أَغْلَظُ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ، لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِنَّ نَقْصَ الْكَفْرِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهَا نَقْصُ الرِّقِّ.

وَالثَّانِي: إِنَّ نَقْصَ الْكَفْرِ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الْخَبَرِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ نَقْصُ الرِّقِّ، ثُمَّ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ نَقْصَ الرِّقِّ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ قَبُولِهَا نَقْصُ الْكَفْرِ وَلِهَذِهِ الْمَعَانِي مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ اعْتِبَارًا بِنَقْصِ الْكَفْرِ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ.

وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ:

أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا شَهَادَةٌ يَمْنَعُ مِنْهَا الرِّقَّ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهَا الْكُفْرُ، قِيَاسًا عَلَى شَهَادَةِ الْوَثَنِيِّ.

وَالثَّانِي: إِنَّهَا شَهَادَةٌ يَمْنَعُ مِنْهَا كُفْرُ الْوَثَنِيِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهَا كُفْرُ الْكِتَابِيِّ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ.

فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَسَنَذْكُرُ مِنِ اخْتِلَافِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَفْسِيرِهَا مَا يَتَكَافَأُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: ١٠٦] فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:

أَحَدُهَا: إِنَّهَا الشَّهَادَةُ بِالْحُقُوقِ عِنْدَ الْحُكَّامِ.

وَالثَّانِي: إِنَّهَا شَهَادَةُ الْحُضُورِ لِلْوَصِيَّةِ.

وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا أَيْمَانٌ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَيْمَانُ بَيْنِكُمْ فَعَبَّرَ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ، كَمَا قَالَ فِي أَيْمَانِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: ٦] فَلَا يَكُونُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا دَلِيلٌ إِلَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، وَيَمْنَعُهُ التَّأْوِيلَانِ الْآخَرَانِ مِنْهُمَا، وَلَا يَكُونُ لِدَاوُدَ فِيهَا دَلِيلٌ إِلَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي، وَيَمْنَعُهُ التَّأْوِيلَانِ الْآخَرَانِ فِيهِمَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>