للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الماوردي: وهذا كما قَالَ وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْعِيدِ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ.

قَالَ أَصْحَابُنَا: فَيَحْتَمِلُ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وُجُوهًا مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، لِيُسَاوِيَ فِي مُحَرَّفِهِ وَمَمَرِّهِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ بِذَلِكَ فِي مَحَالِّهِمْ، فَيَقُولُونَ مَرَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَصْحَابِهِ، فَكَانَ إِذَا مَضَى إِلَى الْمُصَلَّى فِي أَحَدِ الْحَيَّيْنِ رَجَعَ فِي الْحَيِّ الْآخَرِ لِيُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَصَدَّقُ عَلَى مَسَاكِينِ الطَّرِيقِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِهِ لِيَتَصَدَّقَ عَلَى مَسَاكِينِهِ، وَمِنْهَا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْصِدُهُ الْفُقَرَاءُ بِالسُّؤَالِ وَلَا يَحْضُرُهُ مَا يُغْنِيهِمْ، فَكَانَ يَرْجِعُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ تَوَقِّيًا لمسئلتهم، ومنها أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ سُئِلَ فِي طَرِيقِهِ عَنْ مَعَالِمِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَأَحَبَّ أَنْ يَعُودَ فِي آخَرَ لِيُعَلِّمَ أَهْلَ الطَّرِيقَيْنِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِلَسَّعَةِ وَقِلَّةِ الزِّحَامِ، وَقِيلَ بَلْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَنْتَشِرَ الْمُسْلِمُونَ فِي الطَّرِيقِ لِيَزْدَادَ غَيْظًا لِلْيَهُودِ، وَقِيلَ بَلْ فَعَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ تَجَنُّبًا لِمَكْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِبْطَالًا لِكَيْدِهِمْ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا تَرَصَّدُوا لَهُ بِالْمَكْرِ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ، وَقِيلَ بَلْ لِتَشْهَدَ الْبِقَاعُ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ مَنْ مَشَى فِي خَيْرٍ وَبِرٍّ شَهِدَتْ لَهُ الْبِقَاعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ فِي شَهَادَةِ الْبِقَاعِ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْطِقُهَا فَتَشْهَدُ بِذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ مَلَائِكَةُ الْمَوْضِعِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ سُكَّانُ الْمَوْضِعِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ) {الدخان: ٢٩) يَعْنِي سُكَّانَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ مَا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ وَيَطُولُ ذِكْرُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعَانِي، فَقَدْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ لَمْ يُسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْمَأْمُومِينَ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لمعنى يشاركه فيه غيره استحببناه لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْمَأْمُومِينَ، وَإِنْ شَكَكْنَا هَلْ فَعَلَهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ أَوْ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ مِثْلُ فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقتداء به، وقال أبو علي ابن أَبِي هُرَيْرَةَ سَوَاءٌ فَعَلَهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ أَوْ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَالْمُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ ثُمَّ يَصِيرُ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُ، كَالِاضْطِبَاعِ وَالرَّمَلِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ وَأَبَا عَلِيٍّ قَدِ اتَّفَقَا أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ فِي وَقْتِنَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>