للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[لقد أنسيت أن أمك امرأة!]

وقال أبو الحسين كاتبه: وأتيت إليه يوماً وقد مات والدتي فعرفته فبكى، وقال: ماتت كبيرتي ومربيتي، وهو كان أكبر منها بأربعين سنة. ثم قال لغلامه: يا بشرى، قم فجئني بعشرين ديناراً فأتاه بها. فقال: خذها فاشتر بعشرة دنانير كفناً وتصدق بخمسة دنانير على القبر، وأقبل يصرف الخمسة الباقية فيما يحتاج إليه من تجيزها. ثم قال لغلام آخر: امض أنت يا لؤلؤ إلى فلان صاحبنا لا يفوتك يغسلها، فاستحييت منه. وقلت: يا سيدي، ابعث خلفك فلانة جارة لنا تغسلها. قال: يا أبا الحسين، ما تدع عقلك في فرح ولا حزن، كأن حرمك ما هي حرمي! كيف يدخل عليها من لا نعرفه. قلت: نعم! تأذن لي بذلك. قال: لا والله ما يغسلها إلا فلان! فقلت: وكيف يغسل رجل امرأة؟ قال: وإنما أمك امرأة، والله لقد أنسيت!

[خدعنا عابر الرؤيا!]

وكان يوماً عند أبي بكر المادراني ثم خرج وهو طيب الخلق، فاجتاز بابن زنبور فسمع خفق أوتار وغناء في داخل الدار، فوقف يسمع؛ فرآه غلام لابن زنبور فدخل فأعلم مولاه فخرج حافياً. وقال: يا مولاي الشريف، تشرفني بالدخول! قال: نعم، فدخل فقدم له طعاماً فأكل وشرب ثلاثة أقداح وغنى ثلاثة أصوات وانصرف، فنام ليلته فلما أصبح قال: يا بشرى؛ جئني الساعة بأبي شامة العابر، فأتاه به فقال: رأيت البارحة كأني خرجت من دار إخواني فاجتزت بدار حسنة، فسمعت خفق العيدان، وغناء القيان، فخرج إلي صاحب الدار، فأدخلني فأفضيت إلى بستان في الساحة، أمامه نهر جليل، في صدره شاذروان، وقد فرش المجلس بأنواع الديباج المثقل، وضربت ستارة فيها غرائب الصور وعجائب الصنائع، وفيها قيان بأيديهن العيدان وهن يغنين أحسن الأغاني؛ فقدم لي خوان عليه من كل الألوان فأكلت وشرب وغنيت وانصرفت.

ففسر له الرؤيا على ما يسره؛ فأمر له بخمسة دنانير، ثم مر بعد أيام بابن زنبور وهو جالس على باب داره. فقال له: يا سيدي الشريف، ما تشرفني بعودة. قال: إذا ماذا؟ قال: تثني إلى عادة حضورك. قال: ومتى تقدم إلى ذلك؟ قال: ليلة كذا. قال: وإنما خدعنا العابر وأخذ متاعنا بالباطل! امضوا إليه وردوا الخمسة دنانير منه؛ ثم فكر ساعة، وقال: دعوه لعله أنفقها وهو فقير!

تشتمني غائباً وحاضراً

وشرب مرةً أخرى عند ابن زنبور الكاتب ومعه ابن المادراني، وحضر القيان فغنين أطيب غناء؛ فقام الشريف إلى قضاء الحاجة، فأتت دابة ابن المادراني فانصرف، والشريف في الخلاء، فقضى حاجته وعاد إلى موضعه، وكان ابن زنبور لما انصرف أبو بكر رجع في دسته، فالتفت إليه الشريف، وقال: يا أبا بكر؛ هذا الكلب ابن زنبور عنده مثل هذا السماع الطيب، ولا يمتعنا به كل وقت إنما يدعونا من مدة إلى مدة. فقال له ابن زنبور: هو على قدر ما يتفق له من الفراغ وهو مشتغل مع سلطانه في أكثر أيامه. قال: لا والله! ما هو إلا كلب تجلب فاعل صانع. فقال له: أعز الله الشريف؛ أبو بكر انصرف وأنا ابن زنبور! فقال له: اعذرني والله ما ظننتك إلا ابن المادراني؟ فقال: أراك تشتمني غائباً وحاضراً!

[أنا أبكر إليك]

وقال له بعض أصحاب الإخشيد: أحب أن تبكر إلي بالغداة في حاجة للأمير، أيده الله، وذكر الحاجة. فقال: أنا آتيك أول الناس كلهم، فمضى وأكل وشرب أقداحاً، ونام القائلة فاستيقظ بالعشي، فقام مذعوراً؛ فلبس ثيابه، وركب إلى الرئيس؛ فاستأذن عليه فدخل، وقال: اعذرني أعزك الله فقد ضربني النوم، والله ما صليت الصبح من السرعة، ولقد آثرت المجيء إليك عليها، وأنا أستغفر الله عليها؛ فضحك حتى استلقى. وقال له: قد احتجنا إلى تأخير الأمر إلى الغد إن شاء الله. قال: فأنا أبكر إليك على كل حال، وانصرف.

[من ملح الأعراب]

قال بعض الرواة: خرجنا نريد البصرة فنزلنا على ماء لبني سعد، فإذا أعرابية نائمة فأنبهناها للصلاة؛ فأتت الماء فوجدته بارداً فتوجهت إلى القبلة قاعدة ولم تمس الماء، فكبرت ثم قالت: اللهم قمت وأنا عجلى، وصليت وأنا كلى؛ فاغفر لي عدد الثرى. قال: فعجبنا وقلنا: ما تجوز لك الصلاة وما هذه بقراءة! قالت: والله إن هذه لصلاتي منذ أربعين سنة.

<<  <   >  >>