للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شرب ابن حمدون النديم مع المتوكل وبحضرته غلام مليح الوجه؛ فتأمله ابن حمدون تأملاً شديداً، وقد حمل الشراب إليه. فقال المتوكل: يابن حمدون، ما الحكم في الرجل إذا نظر إلى غلام فتى؟ قال: أن تقطع أذنه. قال: ليحكم عليك بحكمك، فأمر أن تعرك أذنه حتى تخضر ثم تقطع، وأمر بنفيه إلى بغداد. فلقيه إسحاق بن إبراهيم الموصلي بها فسأله عن حاله، وعمن ينادم المتوكل معه. فقال: أحد ندمائه ابن عمرو البازيار؛ فسأله إسحاق عن محله من العلم والفهم. فقال له: أكثر ما يقول للخليفة؛ أبقاك الله يا أمير المؤمنين إلى يوم القيامة وبعد القيامة بشيء كثير. فقال له إسحاق: اعمل على أنه كان لك كر آذان فقطعت؛ أليس ذلك أسهل من حضور مجلس تقاسي فيه ابن عمرو البازيار.

وكان ابن حمدون أخف الناس روحاً وأحلاهم دعابةً، وكان المتوكل يستملحه. فقال يوماً: الزئبق من أين يجاء به؟ فقال ابن حمدون: من الشيز، وأنا أعرف الناس بها. قال: قد وليتك إياها فاخرج إليها، فضاقت به الدنيا، وأنشده:

ولاية الشيز عزلٌ ... والعزل عنها ولايه

فولّني العزل عنها ... إن كنت بي ذا عنايه

فضحك المتوكل وأعفاه. وذكر الصولي أن أخاه أحمد عمل له البيتين.

[بين أبي العيناء وابن الزيات]

دخل أبو العيناء على محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، فجعل لا يكلمه إلا بأطرافه. فقال: إن من حق نعمة الله عليك، لما قد أهلك له في هذه الحال التي أنت عليها، أن تجعل البسطة لأهل الحاجة إليك؛ فبقضاء الحاجات تدوم النعم.

فقال محمد: أما إني أعرفك فضولياً كثير الكلام، أوترى أن طول لسانك يمنع مع أن أؤدبك إذا زللت؛ وأمر به إلى الحبس.

فكتب إليه من الحبس: قد علمت أن الحبس لم يكن تقدم إليك، ولكنك أحببت أن تريني مقدار قدرتك علي؛ لأن كل جديد يستلذ؛ ولا بأس أن تريني من عفوك مثلما أريتنا من قدرتك، فأمر بإطلاقه.

وانقطع عنه مدةً فلقيه، فحبس محمد بن عبد الملك دابته عليه. فقال: ما لي لا أراك يا أبا عبد الله تواصلنا حسب إيجابنا لك؟ فقال له أبو العيناء: أما المعرفة بعنايتك فمناكرة، ولكنني أحسب الذي جدد استبطاءك فراغ حبسك ممن كان فيه، فأحببت أن تغمرني فيه.

[لؤم ابن الزيات]

وكان محمد بن عبد الملك على علمه وأدبه ألأم الناس، فمن عجيب لؤمه أنه كان له جار في انخفاض حاله، وكان بينهما ما يكون بين الجيران من التباعد؛ فلما بلغ محمد ما بلغ شخص الرجل إلى سر من رأى، فورد بابه وهو يتغدى، فوصل إليه وهو على طعامه، فتركه قائماً لا يرفع طرفه إليه، فلما فرغ من أكله قال: ما خبرك؟ قال: قد أصارك الله أيها الوزير إلى أجل الآمال فيك، وصرف أعناق الناس إليك، وقد علمت ما كنت تنقمه علي، وقد غير الدهر حالي؛ فوردت إليك مستقيلاً عثراتي، مستعطفاً على خلاتي.

فقال له: قد علمت هذا، فانصرف وعد إلي في غد. فولى الرجل؛ فلما صار في صحن الدار دعا به، فلما صار بين قال له: والله ما لك عندي شيء، ثم أقبل على بعض من كان بين يديه، فقال: إنما رددته وآيسته بخلاً عليه بفسحة الأمل بقية يومه.

وهذا كقول بعضهم:

إن قلت إنّك كالسحاب لكان ذا ... وصفاً لمثلك زائداً في الحال

إنّ السحاب لذو مواعد جمّةٍ ... وبخلت بالموعود والأفعال

وكان محمد بن عبد الملك واحداً في صناعته، مفرداً في براعته.

[بين أبي السمراء وعبد الله بن طاهر]

وكان أبو السمراء العلاء بن عاصم بن عصمة العسكري نديم عبد الله بن طاهر يأنس به، ويجاريه الشعر، فكتب إليه:

تقول لمّا جعلت أبكي ... سلوه بالله ممّ يبكي؟

فقلت أبكي لما أراه ... عمّا قليلٍ يكون منك

قالت فلا تخش قلت ما لي ... قلبٌ على الدهر يأتمنك

لا غرّني الدهر منك ودٌّ ... قالت ولا غرّني التبكّي

فوقع ابن طاهر في ظاهرها بديهاً:

لا أشتكي من هواك إلاّ ... إليك لو ينفع التشكي

حلفت جهد اليمين أن لا ... أزول إلاّ إليك عنك

كلفتني السعي في طريقٍ ... وعرٍ قليل الأنيس ضنك

فرحت بي في إسار قلبي ... ثم تشاغلت عند فكّي

ومن جيد شعره في جارية له توفيت:

<<  <   >  >>