للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلت أنا: وليت شعري إذا كان السماع داعية الأنس، وعشيق النفس، الذي ينهكها إذا أسرها الهم، ويبسطها إذا قبضها الغم، وهو المستأذن على القلب، المنقذ له من الكرب، الداخل عليه من غير تعب، والوارد إليه بغير نصب، وقد قال أرسطا طاليس: لما حددنا المنطق وجدنا فيه ما لا يبلغه اللسان إلا آلة، فركبنا العود على الطبائع، لاستخراج تلك الودائع، فلما قابلت النفس استماع ما ظهر منه عشقته بالعنصر.

وقالوا: كل شراب بلا سماع الدن أولى به؛ فما باله لا تستخرج له الأشعار الرقيقة، ذات المعاني الدقيقة الأنيقة، والألفاظ الناعمة الشكلة، في الأبيات الغزلة، التي تطرب بالتكلم قبل الترنم، ويتجنب ما كان من صفات الجيوش والمقانب، والغارات والكتائب، والأحزان والمصائب؛ فلأن يسمع من كان ثملاً جذلاً:

ظفرت بقبلةٍ منه اختلاساً ... وكنت من الرقيب على حذار

ألذّ من الصبوح على غمامٍ ... ومن برد النسيم على خمار

أحب إليه من أن يسمع:

إنّ السنان وحدّ السيف لو نطقا ... لحدّثا عنك يوم الروع بالعجب

أنفقت مالك تعطيه وتبذله ... يا متلف الفضّة البيضاء والذهب

إلا أن يكون سامعه كمهلهل، وربيعة بن مكدم، وعتيبة بن الحارث بن شهاب؛ هذا على أن هذا الشعر ليس بتحسين الحظ في فصاحة اللفظ، ولا قاصر المرمى عن إدراك المعنى، كقول مروان بن صرد أخي أبي بكر بن صرد في يزيد بن يزيد فيه يقول:

أما أبوك فأندى العالمين يداً ... وكان عمّك معنٌ سيد العرب

عيدانكم خير عيدان وأطيبها ... عيدان نبع وليس النبع كالغرب

وإنكم سادةٌ أوليتم حسباً ... وأنتم قالةٌ للشّعر والخطب

ولكن لكل مكان ما يليق بموضعه، ويحسن بموقعه؛ فأشبه أوقات اللهو والشراب، ذكر التغزل بالأحباب.

وقد قال بعض البلغاء: لولا العشق والهوى، لم توجد لذة الصبا، ولم يكن الطرب والغناء، ولنقص نعيم أهل الدنيا.

وكان ابن الرومي يقول: لو ملكت الأمر وأدركت ملحن هذا الشعر لقتلته:

كليبٌ لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرّج بالدّم

رمى ضرع ناب فاستمرت بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليمانيّ المسهّم

وقال ثمامة بن أشرس: كنت عند المأمون يوماً إذ جاءه الحاجب يستأذن لعمير المأموني، فكرهت ذلك، ورأى الكراهة في وجهي. فقال: يا ثمامة، ما لك؟ قلت: يا أمير المؤمنين إنا إذا غنانا عمير ذكر مواطن الإبل، وكثبان الرمل، وإذا غنتنا فلانة انبسط أملي، وقوي جذلي، وانشرح صدري، وذكرت الجنان. كم يا أمير المؤمنين بين أن تغنيك جارية غادة، كأنها غصن بان، بمقلة وسنان، كأنما خلقت من ياقوتة، أو خرطت من درة، بشعر عكاشة العمي:

من كفّ جاريةٍ كأنّ بنانها ... من فضّةٍ قد طرّزت عنّابا

وكأنّ يمناها إذا ضربت بها ... تلقي على يدها الشمال حسابا

وبين أن يغنيك رجل ملتف اللحية، غليظ الأصابع، خشن الكف، بشعر ورقاء بن زهير:

رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر

وكم بين من يحضرك من تشتهي النظر إليه، وبين من لا يقف طرفك عليه؟ فتبسم المأمون. وقال: إن الفرق لواضح، وإن المنهج لفسيح، يا غلام؛ لا تأذن له! وأحضر قينة. قال: فظللنا في أمتع يوم.

[من طيبات الأغاني ومطربات القيان]

وقد كتبت جرءاً مما قيل في طيبات الأغاني ومطربات القيان، وأنا أعيد منها هنا قطعة ترتاح إليها الأرواح: أنشد أبو العباس أحمد بن محمد الأنباري الناشىء في مثل قول عكاشة:

وإذا بصرت بكفّها اليسرى حكت ... يد كاتبٍ يلقي عليك صنوفا

وكأنّما المضراب في أوتاره ... قلم يمجمج في الكتاب حروفا

ويجسّه إبهامها فكأنّه ... في النقر ينفي بهرجاً وزيوفا

أخذ هذا البيت من قول أبي شجرة السلمي وذكر ناقته:

يطير عنها حصا الظّران من بلدٍ ... كما تنوقد عند الجهبذ الورق

وأصله من قول امرىء القيس:

كأنّ صليل المرو حين تطيره ... صليل زيوفٍ ينتقدن بعبقرا

وقال ابن العجاج:

<<  <   >  >>