للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق ... أيدي نساءٍ يتعاطين الورق

وقال أبو نواس:

وأهيف مثل طاقة ياسمين ... له حظّان من دنيا ودين

يحرّك حين يشدو ساكناتٍ ... وتنبعث الطبائع للسكون

وهذا مليحٌ، يريد حركة الجوانح للغناء، وسكون الجوارح للاستماع.

[صفة القيان والعيدان]

ومن عجيب ما قيل في صفات القيان والعيدان قول ابن الرومي.

وقيانٍ كأنّها أُمهاتٌ ... عاطفاتٌ على بنيها حواني

مطفلات وما حملن جنيناً ... مرضعات ولسن ذات لبان

ملقمات أطفالهنّ ثديّاً ... ناهداتٍ كأحسن الرمّان

مفعمات كأنها حافلاتٌ ... وهي صفر من درّة الألبان

كل طفل يدعى بأسماء شتّى ... بين عود ومزهر وكران

أمّه دهرها تترجم عنه ... وهو بادي الغنى عن الترجمان

وأنشد أبو علي الحاتمي لأبي بكر الصولي:

وغناءٌ أرقّ من دمعة الص ... بّ وشكوى المتيّم المهجور

يشغل الفهم عن تظنٍّ وفهمٍ ... فهو يصغي بظاهرٍ وضمير

صافح السمع بالذي يشتهيه ... فأذاق النفوس طعم السرور

ليس بالقائل الضعيف إذا ما ... راض نغماً ولا الشنيع الجهير

يجتني السمع منه أحسن ممّا ... تجتني العين من وجوه البدور

[إبليس ينادم إبراهيم الموصلي]

قال إبراهيم الموصلي: استأذنت الرشيد في أن يهب لي في كل أسبوع يوماً، أخلو فيه مع جواري، فأذن لي في يوم الأحد وقال: هو يوم أستثقله؛ فلما كان في بعض الآحاد أتيت الدار، فدخلت الحجاب ألا يأذنوا لأحد علي وأغلقت الأبواب.

فما هو إلا أن جلست حتى دخل علي شيخ حسن السمت والهيئة، على رأسه قلنسوة لاطئة، وفي رجله خفان أحمران، وفي يده عكازة مقمعة بفضة، وعليه غلالة سكب.

فلما رأيته امتلأت غيظاً، وقلت: ألم آمر الحجاب ألا يأذنوا لأحد، فسلم. فأفكرت وقلت: لعلهم علموا من الشيخ ظرفاً وهيئة، فأحبوا أن يؤنسوني به في هذا اليوم؛ فلما أمرته بالجلوس جلس، وقال: يا إبراهيم ألا تغنيني صوتاً؟ فامتلأت عليه غيظاً ولم أجد إلى ردة سبيلاً؛ لأنه في منزلي، وحملته منه على سوء أدب العامة؛ فأخذت العود وضربت وغنيت ووضعت العود. فقال لي: لم قطعت هزارك؟ فزادني غيظاً، وقلت لا يسيدني ولا يكنيني ولا يقول: أحسنت! فأخذت العود فغنيت الثانية، فقال لي: أحسنت، فكدت والله أشق ثيابي، فغنيت تمام الهزار. فقال: أحسنت يا سيدي! ثم قال: ناولني العود، فوالله لقد استجابه، فوضعه في حجره، ثم جسه من غير أن يكون ضرب بأنملة، فوالله لقد خلت زوال نعمتي في حبسه، ثم ضرب وغنى:

ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد

أإن هتفت ورقاء في رونق الضّحى ... على فنن غضّ النبات من الرّند

بكيت كما يبكي الوليد ولم أكن ... جليداً وأبديت الذي لم أكن أُبدي

وقد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا ... يملّ وأنّ النأي يسلي من الوجد

بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خيرٌ من البعد

فوالله لقد خلت كل شيء في الحضرة يتغنى معه حتى الأبواب والستور، ثم ضرب وغنى:

ألا يا حمامات اللّوى عدن عودةً ... فإني إلى أصواتكنّ حزين

فعدن فلما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأسراري لهنّ أُبين

دعون بترداد الهدير كأنما ... شربن حميّا أو بهنّ جنون

فلم تر عيني مثلهنّ حمائماً ... بكين ولم تدمع لهنّ عيون

ثم ضرب وغنى:

قفا ودعا نجداً ومن حلّ بالحمى ... وقلّ لنجدٍ عندنا أن يودّعا

وأذكر أيام لحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعا

فليست عشيّات الحمى برواجع ... إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا

وأعذر فيها النفس إن حيل دونها ... وتأبى إليها النفس إلاّ تطلّعا

<<  <   >  >>