للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فوالله لقد تغنى كل شيء معه بالحضرة، حتى النمارق والوسائد وقميصي الذي على بدني؛ فقال: يا أبا إسحاق! هذا الغناء الماخوري، تعلمه وعلمه جواريك، ثم وضع العود من حجره وقام إلى الدار فلم أره، فدفعت أبواب الحرم فإذا هي مغلقة؛ فقلت: ويحكن هل سمعتن ما سمعت، أو رأيتن ما رأيت؟ قلن: نعم! سمعنا وأعدن الأصوات علي وقد لقنها؛ فسألت الحجاب عن الرجل؛ فقالوا لي: لم يدخل عليك أحد حتى يخرج، فأمرت بدابتي فأسرجت، فركبت من فوري إلى دار الخليفة واستأذنت؛ فلما رآني قال: ألم تنصرف آنفاً على نية المقام في منزلك والخلوة بأهلك؛ قلت: يا سيدي؛ جئت بغريبة؛ وقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها، فضحك حتى رفع الوسائد برجليه، وقال لي: كان نديمك اليوم أبو مرة، وددت أنه لوم متعنا بنفسه كما متعك.

واشتهر إبراهيم بهذا الطريق، واشتهته الناس فلم تبق جارية لقنته من إبراهيم إلا زيد في ثمنها؛ قال اللاحقي:

لا جزى الله الموصليّ أبا إس ... حاق عنّا خيراً ولا إحسانا

جاءنا مرسلاً بوحيٍ من الشي ... طان أغلى به علينا القيانا

من غناءٍ كأنه سكرات ال ... حب يصغي القلوب والآذانا

[أبو فراس يستميل سيف الدولة إلى الغناء]

ومن مليح هذا المعنى قول أبي فراس: كان سيف الدولة لا يشرب النبيذ ولا يسمع القيان ويحظرهما، فوافت ظلوم الشهرامية، وكانت إحدى المحسنات، وكان بحضرته ابن المنجم أحد المحسنين، فتاقت نفسي إلى سماع ظلوم؛ فسألت الأمير أن يحضرهما لأسمعهما مجتمعين؛ فوعدني بإحضارهما مجلسه من يومه، فانصرفت وأنا غير واثق بذلك لعلمي بضعف نيته في مثله، ووجهت إلى ظلوم أتقدم إليها بالاستعداد، وحصلت عندي ابن المنجم، وأقمت أنتظر رسوله إلى أن غربت الشمس، فكتبت إليه:

محلّك الجوزاء بل أرفع ... وصدرك الدهناء بل أوسع

وقلبك الرّحب الذي لم يزل ... للجدّ والهزل به موضع

رفّه بقرع العود سمعاً غدا ... قرع العوالي جلّ ما يسمع

فبلغت هذه الأبيات أبا محمد الحسن بن محمد بن هارون المهلبي؛ فأمر بها فلحنت وغني بها، فلم يشرب بقية يومه ذلك إلا عليها.

[من شعر أبي فراس]

وأبو فراس هو الحارث بن سعيد بن حمدان؛ وفي أبي فراس يقول القاضي ابن الهيثم:

أيقنت أني ما بقي ... ت رهين شكر الحارث

فإذا المنية أشرفت ... ورّثت ذاك لوارثي

رقّي له من بعد سي ... يّدنا وليس لثالث

قال أبو فراس: فحاولت جوابه على هذه القافية فما أمكنني شيء أرتضيه، فكتبت إليه:

لئن جمعتنا غدوةً أرض يابس ... فإنّ لها عندي يداً لا أضيعها

أحبّ بلاد الله أرضٌ تحلّها ... إليّ، ودار تحتويك ربوعها

أفي كلّ يوم رحلة بعد رحلة ... تجرّع نفسي حسرةً وتروعها

فلي أبداً قلبٌ كثير نزاعه ... ولي أبداً نفسٌ قليل نزوعها

لحى الله قلباً لا يهيم صبابةً ... إليك وعيناً لا تفيض دموعها

وكان أبو فراس حسن الشعر، جيد النمط، ولقوته من الطلاوة والحلاوة ما يشهد به ما أنشد له.

وكان أبو القاسم الصاحب يقول: بدىء الشعر بملك، وختم بملك؛ بدىء بامرىء القيس، وختم بأبي فراس.

[بين أبي فراس وسيف الدولة]

وكتب أبو فراس إلى سيف الدولة وقد سار إلى منزله: كتابي أطال الله بقاء الأمير من منزلي، وقد وردته ورود السالم الغانم موقر الظهر وفراً وشكراً؛ فاستحسن سيف الدولة بلاغته فقال:

هل للفصاحة والسما ... حة والعلا عنّي محيد

في كل يوم استقي ... د من العلاء وأستفيد

ويزيد فيّ إذا رأي ... تك في الندى خلقٌ جدي

وأهدى الناس إلى سيف الدولة في بعض الأعياد فأكثروا؛ فاستشارهم أبو فراس فيما يهديه إليه، فكل أشار بشيء، فخالهم وكتب إليه:

نفسي فداؤك قد بعث ... ت بمهجتي بيد الرسول

أهديت نفسي، إنما ... يهدى الجليل إلى الجليل

وجعلت ما ملكت يدي ... بشرى المبشّر بالقبول

ووقع بين أبي فراس وبين بني عمه عداء وهو صغير؛ فمزح سيف الدولة معه بالتعصب عليه فقال:

<<  <   >  >>