للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وصلت رسالتك ففضضها عن خط مشرق، ولفظ مونق، وعبارة مصيبة، ومعان غريبة، واتساع في البلاغة يعجز عنها عبد الحمد في كتابته، وسحبان في خطابته، وتصرف بين جد أمضى من القضاء والقدر، وهزل أرق من نسيم السحر، وتقلب في وجوه الخطاب، الجامع لفنون الصواب، إلا أن الفعل قصر عن القول؛ لأنك ذكرت حملاً جعلته بصفتك جملاً، وكان كالمعيدي تسمع به لا أن تراه، وحضر فرأيت كبشاً متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد، قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور، فظننته أحد الزوجين اللذين حملها نوح في سفينته، وحفظ بهما جنس الغنم لذريته، صغر عن الكبر، ولطف عن القدم، فبانت دمامته، وتقاصرت قامته، وعاد ناحلاً ضئيلاً، بالياً هزيلاً، بادي السقام، عاري العظام، جامعاً للمعايب، مشتملاً على المثالب، يعجب العاقل من حلول. الحياة به، وتأتي الحركة له؛ لأنه عظم مجلد، وصوف ملبد، لا تجد فوق عظامه سلباً، ولا تلقى يدك منه إلا خشباً، لو ألقي للسبع لأباه، ولو طرح للذئب لعافه وقلاه، وقد طال للكلأ فقده، وبعد بالمرعى عهده، لم ير القت إلا نائماً، ولا عرف الشعير إلا حالماً.

وقد خيرتني بين أن أقتنيه فيكون فيه غنى الدهر، أو أذبحه فيكون فيه صب الرحل؛ فملت إلى استبقائه لما تعرفه من محبتي للتوفير، ورغبتي في التثمير وجمعي للولد، وادخاري للغد؛ فلم أجد فيه مستمتعً لبقاء، ولا مدفعاً لفناء؛ لأنه ليس بأنثى تحمل، ولا بفتىً ينسل، ولا بصحيح يرعى، ولا بسليم يبقى؛ فملت إلى الثاني من رأييك، وعملت على الأخير من قوليك، وقلت: أذبحه فيكون وظيفةً للعيال، وأقيمه رطباً مقام قديد الغزال؛ فأنشدني وقد أضرمت النار، وحدت الشفار، وشمر الجزار:

أُعيذها نظراتٍ منك صادقةً ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

وما الفائدة لك في ذبحي، وأنا لم يبق فيّ إلا نفس خافت، ومقل إنسانها باهت؛ ولست بذي لحم فأصلح للأكل، لأن الدهر قد أكل لحمي، ولا جلدي للدباغ يصلح؛ لأن الأيام قد مزقت أديمي؛ ولا صوفي يصلح للغزل؛ لأن الحوادث قد حصت وبري، فإن أردتني للوقود فكف حطب أبقى من ناري، ولا تفي حرارة جمري بريح قتاري، فلم يبق إلا أن تطالبني بذحل، أو بيني وبينك دم.

فوجدته صادقاً في مقالته، ناصحاً في مشورته؛ فلم أعلم من أي أمريه أعجب؛ من مماطلته الدهر بالبقاء، أم صبره على الضير والبلاء، أم قدرتك عليه مع إعواز مثله، أم تأهيلك الصديق به مع خساسة قدره؟ ويا ليت شعري إذ كنت والي الغنم، وأمرك ينفذ في الضأن والمعز، وكل كبش سمين، وحمل بطين، مجلوب إليك، مقصور عليك، تقول فلا ترد، وتريد فلا تصد، وكانت هديتك هذا الذي كأنه ناشر من القبور، وقائم عند النفخ في الصور؛ فما كنت مهدياً لو كنت رجلاً من عرض الكتاب، كأبي علي وأبي الخطاب، ما كنت تهدي إلا كلباً أجرب، أو قرداً أحدب.

[الحمدوني يصف أضحية]

وقال الحمدوني في أضحية أهداها إليه سعيد بن أحمد جوسبنداد:

أسعيد قد أهديتني أضحّيةً ... مكثت زماناً عندكم ما تطعم

نضواً تغامزت الكلاب بها وقد ... شدّوا عليها كي تموت فيولموا

فإذا الملاح ضحكوا بها قالت لهم ... لا تهزؤوا بي وارحموني ترحموا

مرّت على علفٍ فقامت لم ترم ... عنه وغنّت والمدامع سجّم

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخّرٌ عنه ولا متقدّم

وقال:

أبا سعيدٍ لنا في شاتك العبر ... جاءت وليس لها بولٌ ولا بعر

وكيف تبعر شاةٌ عندكم مكثت ... طعامها الأبيضان الشمس والقمر

لو أنها أبصرت في نومها علفاً ... غنّت له ودموع العين تنحدر

يا مانعي لذّة الدنيا بما رحبت ... إني ليمتعني من وجهك النّظر

وقال:

شاة سعيدٍ في أمرها عبر ... لما أتتنا قد مسّها الضرر

وهي تغنّي لسوء حالتها ... حسبي بما قد لقيت يا عمر

مرّت بقطف خضر ينشّرها ... قومٌ فظنّت بأنّها خضر

فأقبلت نحوها لتأكلها ... حتى إذا ما تبيّن الخبر

وأبدلتها الظّنون من طمع ... يأساً تغنّت والدمع ينحدر

<<  <   >  >>