للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فعرض أبو عباد يوماً عليه كتاباً وخرج، فلما قرب من الباب أمر المأمون برده؛ فرجع وقد تغير، فخاطبه وتركه ينصرف. فلما كاد يركب أمر برده. فلما عرف الرسول تناول الدواة من غلامه، وقال: الساعة والله أضرب بها وجهك يابن الخبيثة، كان ينبغي لك أن تقول قد ذهب إلى النار. ورجع، فقال له المأمون: اعرض فيما تعرض علي حوائج الهاشميين. قال: نعم! وقل كل ما تريد فلست أرجع إليك اليوم بعد هذا، ولو قمت أنت بنفسك! فضحك المأمون، وقال: قاتل الله دعبلاً يريد قوله:

أولى الأمور بضيعةٍ وفساد ... أمرٌ يدبّره أبو عبّاد

وكأنه من دير هرقل خارجٌ ... حرجاً يجرّ سلاسل الأقياد

وقيل للمأمون: إن دعبلاً هجاك فقال:

أيسومني المأمون خطّة ظالمٍ ... أوما رأى بالأمس رأس محمّد

يربى على رأس الخلائق مثلما ... تربى الجبال على رؤوس القردد

إني من القوم الذين هم هم ... قتلوا أخاك وشرّفوك بمقعد

شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد

فقال: هو يهجو أبا عباد ولا يهجوني يريد أبا عباد حرج حديد، والمأمون حليم متساهل.

وقال المأمون لما سمع هذا الشعر: ما في الدنيا أصفق وجهاً من دعبل ولا أبهت، كيف يستنقذني هو وقومه من الحضيض الأوهد، وأنا في حجر الخلافة ربيت، وبدرها غذيت، وإنما قال هذا دعبل: لأن طاهر بن الحسين قتل أخاه، وطاهر مولى خزاعة قوم دعبل.

أنشد شاعر أبا عباد قصيدة طويلة، فضاق ضيقاً عظيماً، ثم تجمل معه في استماعها حتى أتمها؛ فقام رجل من أصحابه يعرف بالغالبي؛ فأنشد قصيدة أخرى فسمعها، وقد بلغ الضيق به منتهاه؛ فقال فيها:

ثبتت رحى ملك الإمام بثابتٍ ... وأفاض فيها العدل والإحسانا

يقري الوفود طلاقةً وبشاشةً ... والناكثين مهنّداً وسنانا

فقال أبو عباد: مهلاً مهلاً، إنما أنا كاتب ليست هذه صفتي، هذه صفة حميد الطوسي. فضحك الحاضرون، وزاد ضيق أبي عباد لضحكهم وخجل الرجل. فقال: ما زلت للعافين غيثاً ممرعاً متخرقاً في جوده.... وأنسي من الدهش من غيظه أبي عباد باقي البيت، فأقبل يردد متخرقاً في جوده. فقل: قل قرنانا صفعانا، ودعنا نستريح. فقال: يا سيدي معواناً، وخرج مولياً، فأمر له بعشرة آلاف درهم.

قال إبراهيم بن العباس الصولي: لو وزنت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم بكلام أهل الأرض لرجحت، هذا أبو عباد لم يكن في زمانه أكرم منه، وما يكاد يرى له شاكراً لسوء خلقه.

كان أبو عباد يقول: ما جلس أحد بين يدي، إلا ظننت أني سأجلس بين يديه.

[ضجر سليمان الأعمش]

وكان سليمان الأعمش من الضجر بحيث اشتهر وانتشر؛ قال له الإمام أبو حنيفة النعمان: لولا أني أخاف أن أشق عليك لأكثرت زيارتك. فقال: لا تفعل! فأنت تشق علي والله وأنت في دارك.

وقيل له: عمن أخذت الحدة؟ قال: عن يحيى بن وثاب.

وسأله رجل عن إسناد حديث، فقام وأخذ بحلقه وأسنده إلى الحائط يخنقه، وقال: هذا سنده.

وأتى الأعمش رجل من أصحابه يدعوه إلى طعام صنعه له، فأدخله الحمام قبل ذلك، وأتاه بماء حار فسكبه عليه. فقال: أحرقتني أحرقك الله! والله لا أدخل إليك، ولا آكل طعامك اليوم. ثم صنع له طعاماً بعد ذلك ومضى يقوده، فوقعت إبهام رجله في مسداة في الدار يلعب فيها الصبيان بالبندق. فقال: أردت أن تقلبني في بئر، لله علي إن أقمت عندك أو أكلت طعامك.

وسلم عليه رجل من أصحابه وقد وجد علةً؛ فقال: كيف بت يا أبا محمد؟ فرد عليه؛ ثم قال له آخر: كيف بت؟ فأخرج مضربته ومخدته فوضع رأسه عليها؛ وقال: كذا بت!

[شهادة طريفة]

نازع بعض التميميين رجلاً من بني عمه في حائط بينه وبينه، فبعث إلى قوم ليشهدهم، فأتاه جماعة من القبائل، فوقف بهم عليه، وقال: أشهدكم جميعاً أن نصف هذا الحائط لي!.

[اكتب الإنكار]

وقدم رجل آخر إلى القاضي في شيء يدعيه عليه فأنكر. فقال للقاضي: اكتب لي أصلحك الله إنكاره. قال: ذلك في يدك متى شئت.

[من طرائف المحاورة]

قال عبد الله بن المبارك: كان عندنا رجل يكنى أبا خارجة، فقلت له: لم كنوك أبا خارجة؟ قال: لأني ولدت يوم دخل سليمان بن علي البصرة.

<<  <   >  >>