للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم رأى الآخر فاستنطقه فأجابه بقلب جريء، ولسان طلق؛ وقال: رجل من أبناء دعوتك. قال: فما جاء بك إلى هنا؟ قال: جئت لأنظر إلى هذا البناء، وأتمتع بالنظر إليه، وأكثر الدعاء لأمير المؤمنين بطول البقاء، وتمام النعمة، ونماء العز، والسلامة. قال: أفلك حاجة؟ قال: نعم! خطبت ابنة عمي فردني أبوها وقال لي: لا مال لك، والناس إنما يرغبون في الأموال، وأنا لها وامق، وإليها تائق. قال: قد أمرت لك بخمسين ألفاً. قال: يا أمير المؤمنين؛ قد وصلت فأجزلت الصلة، وأعظمت المنة؛ فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه، وآخر أيامك خيراً من أولها، وأمتعك بما أنعم به عليك، وأمتع رعيتك بك.

فأمر بتعجيل صلته، ووجه بعض خدمه فقال: سل عن مهنته، فإني أراه كاتباً، فرجع الرسولان بحصة ما تفرسه المهدي.

[بدن بلا رأس]

وأخذ رجل من لحية مديني شيئاً، فانتظر أن يقول له: قطع الله عنك القذى، فقال له: لم لم تقل لي قلع الله عنك الأسواء؟ قال المديني: بأبي أنت وأمي! إني نظرت فلم أر شيئاً أقبح من وجهك، فكرهت أن أقول: قلع الله عنك الأسواء؛ فأكون قد دعوت عليك فيتركك الله بدناً بلا رأس.

قال أبو العيناء: استودع رجل عند إمام حلته قارورة زنبق فجحده إياها، وقام يصلي بهم شهر رمضان وقرأ: " قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون " وكررها. فقال الرجل: قارورة زنبق.

[المهدي ينفرد من عسكره]

انفرد المهدي من عسكره فاجتاز برجل على ماء، فقال: ألك طعام؟ قال: نعم! وقدم إليه سفرة كانت معه، فأكل المهدي ثم غسل يده. فقال له الرجل: أصلحك الله! معي شراب فهل لك فيه؟ قال: نعم! فشرب، فلما انتشى قال للرجل: أتعرفني؟ قال: لا. قال: أنا صديق لوزير أمير المؤمنين، وسأسأله في أن يسبب لك أسباباً تنتفع بها؛ ثم شرب قدحاً ثانياً، وقال: أتعرفني من أنا؟ فقال: لقد قلت إنك صديق لوزير أمير المؤمنين. فقال: أنا وزير أمير المؤمنين. ثم شرب ثالثاً. وقال: أتدري من أنا؟ فقال: قل لكي أرى. قال: أنا أمير المؤمنين. فسد الرجل ركوته ونحاها ناحيةً، فقال له المهدي: ما لك عجلت برفعها؟ قال: شربت ثلاثة أقداح فادعيت الخلافة؛ فإن شربت الرابعة ادعيت النبوة، فليس بيني وبينك عمل. فضحك المهدي وأدركته الخيل فجعلوا يترجلون ويسلمون عليه بالخلافة، ثم ركب المهدي وأمرهم بالتحفظ على الرجل؛ فلما تيقن الرجل الأمر سألهم أن يقربوه من أمير المؤمنين، فقربوه منه. فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة، فأدناه، فقال: ما رأيت أصدق منك في دعواك، وغن ادعيت الرابعة، فأنا أول مؤمن بك. فضحك المهدي منه وأمر له بصلة وضمه إلى ندمائه.

[من شعر إسماعيل بن جامع]

قال سفيان بن عيينة وقد رأى إسماعيل بن جامع السهمي وعليه بزة وأثواب حسان؛ فقال: لقد أثرى هذا الفتى، فعلام يحيا ويعطى؟ قالوا: إنه يغني هؤلاء الملوك، قال: بماذا يغنيهم؟ أتحفظون شيئاً مما يقول؟ فأنشده بعضهم:

أطوف نهاري مع الطائفين ... وأرفع من مئزري المسبل

قال: أحسن، ثم ماذا؟ فأنشدوه:

وأسجد بالليل حتى الصّباح ... وأتلو من المحكم المنزل

قال: أجاد والله. ثم ماذا؟ فأنشدوه:

عسى فارج الكرب عن يوسفٍ ... يسخّر لي ربّة المحمل

فقال: آه آه آه! أمسك عليك، اللهم لا تسخرها له.

[ابن جامع أطيب الناس غناء]

وكان ابن جامع أطيب الناس غناءً، فاعتقد بغنائه عقداً نفيسة، وأموالاً جزيلة. حكى عن نفسه قال: ضمني الدهر ضماً شديداً وأنا بمكة، فانتقلت بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوماً وما أملك إلا ثلاثة دراهم، فهي في كمي، وأنا جالس مع بعض أهل المدينة على مناقشة ومذاكرة إذ قال بعضنا: إنه ليبلغنا أن الرشيد يتشوق إليك وأنت ضائع في بلدنا. قال: فما لي من نهوض. قالوا: نحن ننهضك. فقمت مولياً فإذا بجارية حميراء على رأسها جرة تريد الركي، وهي تسعى بين يدي وتترنم بصوت شج في غنائها وتقول:

شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقال لنا ما أقصر اللّيل عندنا

إذا أقبل الليل المضرّ بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا

وذاك لأنّ النوم يغشى عيونهم ... سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا

<<  <   >  >>